في الثاني من أيار عام 1865 م عُقد اجتماع عام وحاشد شكل أرضية التأسيس الرسمي لـ"صندوق استكشاف فلسطين" (Palestine Exploration Fund)، وإلى جانب كل من رئيس أساقفة يورك، الذي سمي رئيساً، وجورج غروف، الذي عُين أمين سر شرف، جلس على المنصة بعد أبرز شخصيات المجتمع الفكتورياني. وما لبثت جهود منظمي الصندوق أن فازت بالدعم الرسمي من جانب دوق أرغَيْل.
ومن عالم المال جاء مورتون بيتو، أحد عمالقة السكك الحديدية، ووالتر موريسون، أحد الصناعيين من أصحاب الملايين. أما من رجال العلم فكان كل من: السير وُلتر سُكُت، رئيس جمعية العمارة الملكية. والسير رودريك مورتشيسون، رئيس الجمعية الجغرافية الملكية. ومن كنيسة إنجلترا جاء، إضافة إلى رئيس أساثقة يورك وعميد وستمنستر، أساقفة كل من أكسفورد ولندن وإيلي، مع عميدي كاتدرائية سانت بول وكنيسة المسيح. وحتى جيمس فرغسُن وجورج ولْيَمْز، كانا قد نسيا خلافاتهما السابقة والتحقا بركب الآخرين في جمعية تركز هدفها على التقصي العلمي لـ "آثار فلسطين وجغرافيتها وجيولوجيتها وتاريخها الطبيعي". على أساس أن "ما من بلد يجب أن يكون محطّ اهتمامنا الشديد كذلك الذي كتبت فيه وثائق ديننا، ووقعت فيه الأحداث التي يصفها".
وبعد صلاة افتتاحية ترأسها أسقف لندن، قام وليم طمسن، رئيس أساقفة يورك بصفته رئيس هذه الجمعية ليوجز أهداف الجمعية الجديدة بخطوطها العريضة، وكشف بوضوح عن التوجهات المستقبلية للعمل، إذ قال في الاجتماع الحاشد: "إن هذا البلد فلسطين عائد لكم ولي؛ إنه لنا أساساً. فقد مُنحت فلسطين إلى أبي إسرائيل بالعبارات التالية: (هيا امْشِ في الأرض طولاً وعرضاً، لأنني سأعطيك إياها)!! ونحن عازمون على المشي عبر فلسطين، بالطول والعرض، لأن تلك الأرض مُنحت لنا. إنها الأرض التي تأتي أنباء خلاصنا منها. إنها الأرض التي نتوجه إليها بوصفها منبعاً لجميع آمالنا؛ إنها الأرض التي نتطلع إليها بوطنية صادقة تضاهي حماسنا الوطني لدى النظر إلى إنجلترا القديمة العزيزة هذه".
وفي ختام تعليقاته، أعلن رئيس الأساقفة أن الملكة فيكتوريا بالذات كانت قد تفضلت بالموافقة على أن تكون الراعية (ولية النعمة) الرسمية لـ "صندوق استكشاف فلسطين". وشكل تبرعها لخزينة الجمعية بمبلغ مئة وخمسين جنيهاً، أكثر من أي تبرع آخر، رمزاً لموافقة المجتمع البريطاني واهتمامه بما اعتبر مشروعاً قومياً.
أما الهدف من إنشاء هذا الصندوق فهو البحث وفق منهج دقيق ووثيق (!!) في آثار فلسطين وذلك من أجل إيضاح التوراة. وعندما صدر أول عدد من المجلة الدورية للصندوق عام 1869 ظهر على غلافها "جمعية من أجل البحث الدقيق والمنظم في الآثار والطبوغرافيا والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والتاريخ الطبيعي وعادات وتقاليد الأرض المقدسة لغاية التوضيح التوراتي". أي أن البحث العلمي قد وُظَّف في خدمة الأهداف التوراتية! فقد كان هدفهم دراسة الأرض ومسحها لـ "إثبات" حقيقة الرواية التوراتية.
وهذا ما أوضحه، لووتر بيسانت، في دراسته في كتاب "المدنية والأرض"، الذي أصدره صندوق استكشاف فلسطين، حيث قال: "كنا نقوم بثورة كاملة في فهم التوراة ودراستها، كنا نحيي العظام وهي رميم". وبيَّن بيسانت، أن هدف الصندوق هو (الاستعادة): "استعادة مجد فلسطين في عهد هيرود، واستعادة بلاد داود بحيث يمكن استعادة اسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يوشع بن نون. وكذلك استعادة مكانة القدس ومجدها وأبهتها، واستعادة أسماء الأماكن المذكورة في التوراة". ويظهر تلاقي البُعد التوراتي والبُعد العسكري في الإشارة إلى يوشع بن نون، وفي قول بيسانت: "عندما وُضعت الأسماء في أماكنها، أصبح في وسعنا تتبُّع سير الجيوش في زحفها".
وكان أول أعمال صندوق استكشاف فلسطين المسح الجغرافي لفلسطين بين (1871 ــ 1877)، وجمع أسماء المواقع القديمة والخرائب والقرى، وأعدّ قوائم للأسماء تحوي أكثر من 10 آلاف اسم نقلت بحروف إنجليزية. وبعد ذلك طبع الصندوق خارطة لفلسطين الغربية على أربعة أشكال:
ــ الأولى، عليها الأسماء العربية الحديثة.
ــ الثانية، عليها أسماء العهد القديم (التناخ).
ــ الثالثة، عليها أسماء العهد الجديد (الاناجيل).
ــ الرابعة، عليها أسماء مصادر المياه وتوزيعها.
تقول د. خيرية قاسمية، في دراستها "نشاطات صندوق استكشاف فلسطين (1868 ــ 1915 م)": إن أهم النتائج التي أسفر عنها العمل، برأي العاملين في الصندوق، تحديد أعداد كبيرة من الأماكن المذكورة في التوراة لم تكن مواقعها معروفة سابقاً (622 اسماً توراتياً في غرب الأردن كان قد تحدد منها 262 اسماً قبل العام 1870).
يبدو أن لهذا الصندوق أهدافاً أخرى بالإضافة إلى العامل التوراتي، إذ أخذت توفد مهندسين من الضباط العسكريين للقيام بأعمال المسح والتنقيب في فلسطين.
مواقع التواصل
في هذا الصدد تقول د. سحر الهنيدي، في مقدمة ترجمتها لكتاب "اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني"، للمؤرخ البريطاني كيث وايتلام، وكان أول أعمال هذا الصندوق المسح الجغرافي لفلسطين الذي جاء على شكل 26 خريطة مفصلة تفصيلاً دقيقاً، بمقياس يقرب من 1 إلى 60.000، كما وصل تصنيف الأماكن إلى 46 تصنيفاً: (مثلاً: مدينة، قرية، خربة، بير، مزار، تل، نبع، قلعة، نهر.. إلخ)، وصدرت مع الخرائط 10 مجلدات تشمل الجيولوجيا والنبات والحيوان والطير والمياه والآثار والطوبوغرافيا وملاحظات عن المعنى التاريخي لقرى فلسطين. قام فريق مساحين بمسح (6000 ميل مربع) من فلسطين، واستمر العمل من سنة (1871 ـ 1875) وانتهى بنشر المجلدات والخرائط عام 1888.
ويبدو أن لهذا الصندوق أهدافاً أخرى بالإضافة إلى العامل التوراتي، إذ أخذت توفد مهندسين من الضباط العسكريين للقيام بأعمال المسح والتنقيب في فلسطين. مع أن المهام الملقاة على هؤلاء لم تكن ذات غايات علمية خالصة ولو بدت كذلك في بعض الأحيان، إلا أن المعلومات التي دونها تخدم الأثريين والعسكريين في آن واحد. من هؤلاء الضباط تشارلز وارن، وهو ضابط مدفعية بريطاني صغير، الذي بدأ عمله في القدس عام 1867، مزوداً باعتمادات واسعة للحفر في القدس، والتي ثبت فيما بعد أن النتائج التي توصل إليها خاطئة من وجهة النظر التاريخية، نتيجة عدم وجود معايير يوثق بها لتاريخ المباني والفخار.
وفي عام 1868 قامت مجموعة من سلاح الهندسة الملكية بإشراف ولسون، بإعداد مخطط لمدينة القدس بمقياس انش للميل الواحد. وفي الفترة ما بين 1871 ــ 1877 أشرف كل من الضابطين كوندر وكتشنر (لورد كتشز فيما بعد)، على عمليات مسح منظمة كان من أهم نتائجها إصدار أول أطلس مضبوط لفلسطين. يضم هذا الأطلس ستاً وعشرين لوحة، ويتضمن تفاصيل طوبوغرافية وسكانية وزراعية، فضلاً عن أسماء المدن والقرى والمواقع الأثرية. والجدير بالذكر أن المواقع هنا مثبتة بأسمائها العربية قبل أن يدخل عليها التحريف والتغيير اللذان طرءا فيما بعد.
وطبقاً لما نشر عن الصندوق، وضع الكولونيل كوندر، منهجية للخرائط التي صمّمها، وقد ظهر له عدة كتابات عن طبوغرافية غرب فلسطين وكتاب «المرشد إلى التوراة"، وفي كتبه حاول تعيين مواقع الأسماء الوارد ذكرها في التوراة ورسم حدود أسباط بني إسرائيل، وقام بما يسمى "اقتفاء آثار الجيوش الغازية والهجرة القديمة"، بالإضافة إلى قراءة النقوش الباقية وفك رموزها.
يقول د. معاوية إبراهيم: أن النشاط الأثري في فلسطين قد تركز من خلال الجمعيات الآنفة الذكر (يقصد صندوق استكشاف فلسطين وغيرها من الجمعيات) التي أخذت التوراة حافزاً ومنطلقاً رئيسياً لأعمالها الميدانية.
الجزيرة
وتشير كتابات المستشرق الجغرافي الكولونيل كوندر، إلى أنه كان من غلاة الصهيونية المسيحية، وقد
نشر كوندر مجموعة من الكتب في هذا السياق، منها ما نشره عام 1879م بعنوان "يهوذا المكابي وحرب الاستقلال اليهودي"، وكتاب "حيث موآب" عام 1894م، وكتاب "مدخل إلى جغرافية الكتاب المقدس"، وكتب عن "الكنعانيين وفلسطين" عام 1891م، والكتاب "المقدس في الشرق" عام 1896م، و"المأساة العبرانية" عام 1900م، ثم كتاباً عن "مدينة القدس" أصدره عام 1909م. وقد ثبت خطأ كثير من التعريفات التي ظن كوندر، أنه بها قد حسم نهائياً طوبوغرافية فلسطين "الكتاب المقدس".
في عام 1892 ألقى الكولونيل كوندر، محاضرة بعنوان "فلسطين الشرقية" على أعضاء الخيمة الغربية التابعة لأحباء صهيون التي سارعت إلى نشرها، والتي شبه فيها الدولة العثمانية بالحكم الروسي الطاغي المستبد، وبأن استغلال فلسطين بأسرها وشرق نهر الأردن سوف يكون بمثابة عودة إلى ذلك الرخاء والازدهار القديم الذي عرفته أيام الرومان، ونصح أحباء صهيون بشراء كل ما يمكنهم من أراضي بيسان وجلعاد الشمالية، وأكد أن حركة الاستعمار اليهودي ليست مصطنعة بل هي حركة طبيعية صحية وليست حصيلة الشعور الديني. وقد اعتز لووتر بيسانت، بما قدمه كوندر، قائلاً: "اسمحوا لي أن أفاخر بذلك، إذا علمتم أن شخصاً واحداً (هو كوندر) قد استعاد من الأسماء القديمة [يقصد التوراتية]، أكثر مما فعله جميع الباحثين والرحالين حتى الآن".
لم يول الباحثون اهتمامهم للفترات السابقة واللاحقة حتى أصبحت حلقة التسلسل التاريخي لعنصر في كثير من الأحيان يقتصر على (إسرائيلي 1، إسرائيلي 2، وإسرائيلي 3) وهكذا.
في هذا الصدد، يقول د. معاوية إبراهيم، في دراسته، "فلسطين: من أقدم العصور إلى القرن الرابع الميلادي": أن النشاط الأثري في فلسطين قد تركز من خلال الجمعيات الآنفة الذكر (يقصد صندوق استكشاف فلسطين وغيرها من الجمعيات) التي أخذت التوراة حافزاً ومنطلقاً رئيسياً لأعمالها الميدانية، وما يترتب على هذه الأعمال من نتائج أصبح مقروناً بما ورد ذكره في الكتاب المقدس، وغدت حلقة التسلسل الزمني ترتكز على المعطيات والحوادث التوراتية، حتى إن المصطلحات للفترات الزمنية أصبحت في الغالب مستمدة من التراث.
وحاول أصحاب هذه المدارس الربط بين المواقع الأثرية وتلك التي ورد ذكرها في التوراة، وكثيراُ ما عرّفوا هذه المواقع بأسماء توراتية دون وجود دليل واضح على تبرير هذه التسميات، وما يترتب عليها من تفسيرات. فعرّفوا على سبيل المثال تل السلطان على أنه أريحا التوراتية (Jericho)، وتل المتسلم على أنه مجدو (Megiddo)، وتل أبو شوشة بالقرب من تل الجزر على أنه جيزر (Gezer)، وتل سيلون بأنه شيلو (Shiloh)، وتل الدوير بأنه لخيش (Lachish)، وتل القدح بأنه حاصور (Hazor)، والتل بأنه عيّ (Ai)، وبيتين بأنها بيت ايل (Bethel).
وقد نشأ عن هذا الأسلوب في البحث الكثير من التشويش والمغالطات التي لا يسهل التخلص منها حتى الآن. وركز الباحثون في أعمالهم الميدانية ودراساتهم على الفترات الزمنية التي اعتقدوا بأن لها علاقة بالتوراة، ولم يولوا اهتمامهم للفترات السابقة واللاحقة حتى أصبحت حلقة التسلسل التاريخي لعنصر في كثير من الأحيان يقتصر على (إسرائيلي 1، إسرائيلي 2، وإسرائيلي 3) وهكذا.
وأخيراً، فقد ترجم "صندوق استكشاف فلسطين"، الإخلاص لنص "الكتاب المقدس"، إلى الإيمان بأن فلسطين هي المسرح الجغرافي لرواية "الكتاب المقدس"، فقام بتهويد أسماء المعالم الفلسطينية، ليساهم في تحويل فلسطين إلى أرض يهودية!
ومن عالم المال جاء مورتون بيتو، أحد عمالقة السكك الحديدية، ووالتر موريسون، أحد الصناعيين من أصحاب الملايين. أما من رجال العلم فكان كل من: السير وُلتر سُكُت، رئيس جمعية العمارة الملكية. والسير رودريك مورتشيسون، رئيس الجمعية الجغرافية الملكية. ومن كنيسة إنجلترا جاء، إضافة إلى رئيس أساثقة يورك وعميد وستمنستر، أساقفة كل من أكسفورد ولندن وإيلي، مع عميدي كاتدرائية سانت بول وكنيسة المسيح. وحتى جيمس فرغسُن وجورج ولْيَمْز، كانا قد نسيا خلافاتهما السابقة والتحقا بركب الآخرين في جمعية تركز هدفها على التقصي العلمي لـ "آثار فلسطين وجغرافيتها وجيولوجيتها وتاريخها الطبيعي". على أساس أن "ما من بلد يجب أن يكون محطّ اهتمامنا الشديد كذلك الذي كتبت فيه وثائق ديننا، ووقعت فيه الأحداث التي يصفها".
وبعد صلاة افتتاحية ترأسها أسقف لندن، قام وليم طمسن، رئيس أساقفة يورك بصفته رئيس هذه الجمعية ليوجز أهداف الجمعية الجديدة بخطوطها العريضة، وكشف بوضوح عن التوجهات المستقبلية للعمل، إذ قال في الاجتماع الحاشد: "إن هذا البلد فلسطين عائد لكم ولي؛ إنه لنا أساساً. فقد مُنحت فلسطين إلى أبي إسرائيل بالعبارات التالية: (هيا امْشِ في الأرض طولاً وعرضاً، لأنني سأعطيك إياها)!! ونحن عازمون على المشي عبر فلسطين، بالطول والعرض، لأن تلك الأرض مُنحت لنا. إنها الأرض التي تأتي أنباء خلاصنا منها. إنها الأرض التي نتوجه إليها بوصفها منبعاً لجميع آمالنا؛ إنها الأرض التي نتطلع إليها بوطنية صادقة تضاهي حماسنا الوطني لدى النظر إلى إنجلترا القديمة العزيزة هذه".
وفي ختام تعليقاته، أعلن رئيس الأساقفة أن الملكة فيكتوريا بالذات كانت قد تفضلت بالموافقة على أن تكون الراعية (ولية النعمة) الرسمية لـ "صندوق استكشاف فلسطين". وشكل تبرعها لخزينة الجمعية بمبلغ مئة وخمسين جنيهاً، أكثر من أي تبرع آخر، رمزاً لموافقة المجتمع البريطاني واهتمامه بما اعتبر مشروعاً قومياً.
أما الهدف من إنشاء هذا الصندوق فهو البحث وفق منهج دقيق ووثيق (!!) في آثار فلسطين وذلك من أجل إيضاح التوراة. وعندما صدر أول عدد من المجلة الدورية للصندوق عام 1869 ظهر على غلافها "جمعية من أجل البحث الدقيق والمنظم في الآثار والطبوغرافيا والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والتاريخ الطبيعي وعادات وتقاليد الأرض المقدسة لغاية التوضيح التوراتي". أي أن البحث العلمي قد وُظَّف في خدمة الأهداف التوراتية! فقد كان هدفهم دراسة الأرض ومسحها لـ "إثبات" حقيقة الرواية التوراتية.
وهذا ما أوضحه، لووتر بيسانت، في دراسته في كتاب "المدنية والأرض"، الذي أصدره صندوق استكشاف فلسطين، حيث قال: "كنا نقوم بثورة كاملة في فهم التوراة ودراستها، كنا نحيي العظام وهي رميم". وبيَّن بيسانت، أن هدف الصندوق هو (الاستعادة): "استعادة مجد فلسطين في عهد هيرود، واستعادة بلاد داود بحيث يمكن استعادة اسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يوشع بن نون. وكذلك استعادة مكانة القدس ومجدها وأبهتها، واستعادة أسماء الأماكن المذكورة في التوراة". ويظهر تلاقي البُعد التوراتي والبُعد العسكري في الإشارة إلى يوشع بن نون، وفي قول بيسانت: "عندما وُضعت الأسماء في أماكنها، أصبح في وسعنا تتبُّع سير الجيوش في زحفها".
وكان أول أعمال صندوق استكشاف فلسطين المسح الجغرافي لفلسطين بين (1871 ــ 1877)، وجمع أسماء المواقع القديمة والخرائب والقرى، وأعدّ قوائم للأسماء تحوي أكثر من 10 آلاف اسم نقلت بحروف إنجليزية. وبعد ذلك طبع الصندوق خارطة لفلسطين الغربية على أربعة أشكال:
ــ الأولى، عليها الأسماء العربية الحديثة.
ــ الثانية، عليها أسماء العهد القديم (التناخ).
ــ الثالثة، عليها أسماء العهد الجديد (الاناجيل).
ــ الرابعة، عليها أسماء مصادر المياه وتوزيعها.
تقول د. خيرية قاسمية، في دراستها "نشاطات صندوق استكشاف فلسطين (1868 ــ 1915 م)": إن أهم النتائج التي أسفر عنها العمل، برأي العاملين في الصندوق، تحديد أعداد كبيرة من الأماكن المذكورة في التوراة لم تكن مواقعها معروفة سابقاً (622 اسماً توراتياً في غرب الأردن كان قد تحدد منها 262 اسماً قبل العام 1870).
يبدو أن لهذا الصندوق أهدافاً أخرى بالإضافة إلى العامل التوراتي، إذ أخذت توفد مهندسين من الضباط العسكريين للقيام بأعمال المسح والتنقيب في فلسطين.
مواقع التواصل
في هذا الصدد تقول د. سحر الهنيدي، في مقدمة ترجمتها لكتاب "اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني"، للمؤرخ البريطاني كيث وايتلام، وكان أول أعمال هذا الصندوق المسح الجغرافي لفلسطين الذي جاء على شكل 26 خريطة مفصلة تفصيلاً دقيقاً، بمقياس يقرب من 1 إلى 60.000، كما وصل تصنيف الأماكن إلى 46 تصنيفاً: (مثلاً: مدينة، قرية، خربة، بير، مزار، تل، نبع، قلعة، نهر.. إلخ)، وصدرت مع الخرائط 10 مجلدات تشمل الجيولوجيا والنبات والحيوان والطير والمياه والآثار والطوبوغرافيا وملاحظات عن المعنى التاريخي لقرى فلسطين. قام فريق مساحين بمسح (6000 ميل مربع) من فلسطين، واستمر العمل من سنة (1871 ـ 1875) وانتهى بنشر المجلدات والخرائط عام 1888.
ويبدو أن لهذا الصندوق أهدافاً أخرى بالإضافة إلى العامل التوراتي، إذ أخذت توفد مهندسين من الضباط العسكريين للقيام بأعمال المسح والتنقيب في فلسطين. مع أن المهام الملقاة على هؤلاء لم تكن ذات غايات علمية خالصة ولو بدت كذلك في بعض الأحيان، إلا أن المعلومات التي دونها تخدم الأثريين والعسكريين في آن واحد. من هؤلاء الضباط تشارلز وارن، وهو ضابط مدفعية بريطاني صغير، الذي بدأ عمله في القدس عام 1867، مزوداً باعتمادات واسعة للحفر في القدس، والتي ثبت فيما بعد أن النتائج التي توصل إليها خاطئة من وجهة النظر التاريخية، نتيجة عدم وجود معايير يوثق بها لتاريخ المباني والفخار.
وفي عام 1868 قامت مجموعة من سلاح الهندسة الملكية بإشراف ولسون، بإعداد مخطط لمدينة القدس بمقياس انش للميل الواحد. وفي الفترة ما بين 1871 ــ 1877 أشرف كل من الضابطين كوندر وكتشنر (لورد كتشز فيما بعد)، على عمليات مسح منظمة كان من أهم نتائجها إصدار أول أطلس مضبوط لفلسطين. يضم هذا الأطلس ستاً وعشرين لوحة، ويتضمن تفاصيل طوبوغرافية وسكانية وزراعية، فضلاً عن أسماء المدن والقرى والمواقع الأثرية. والجدير بالذكر أن المواقع هنا مثبتة بأسمائها العربية قبل أن يدخل عليها التحريف والتغيير اللذان طرءا فيما بعد.
وطبقاً لما نشر عن الصندوق، وضع الكولونيل كوندر، منهجية للخرائط التي صمّمها، وقد ظهر له عدة كتابات عن طبوغرافية غرب فلسطين وكتاب «المرشد إلى التوراة"، وفي كتبه حاول تعيين مواقع الأسماء الوارد ذكرها في التوراة ورسم حدود أسباط بني إسرائيل، وقام بما يسمى "اقتفاء آثار الجيوش الغازية والهجرة القديمة"، بالإضافة إلى قراءة النقوش الباقية وفك رموزها.
يقول د. معاوية إبراهيم: أن النشاط الأثري في فلسطين قد تركز من خلال الجمعيات الآنفة الذكر (يقصد صندوق استكشاف فلسطين وغيرها من الجمعيات) التي أخذت التوراة حافزاً ومنطلقاً رئيسياً لأعمالها الميدانية.
الجزيرة
وتشير كتابات المستشرق الجغرافي الكولونيل كوندر، إلى أنه كان من غلاة الصهيونية المسيحية، وقد
نشر كوندر مجموعة من الكتب في هذا السياق، منها ما نشره عام 1879م بعنوان "يهوذا المكابي وحرب الاستقلال اليهودي"، وكتاب "حيث موآب" عام 1894م، وكتاب "مدخل إلى جغرافية الكتاب المقدس"، وكتب عن "الكنعانيين وفلسطين" عام 1891م، والكتاب "المقدس في الشرق" عام 1896م، و"المأساة العبرانية" عام 1900م، ثم كتاباً عن "مدينة القدس" أصدره عام 1909م. وقد ثبت خطأ كثير من التعريفات التي ظن كوندر، أنه بها قد حسم نهائياً طوبوغرافية فلسطين "الكتاب المقدس".
في عام 1892 ألقى الكولونيل كوندر، محاضرة بعنوان "فلسطين الشرقية" على أعضاء الخيمة الغربية التابعة لأحباء صهيون التي سارعت إلى نشرها، والتي شبه فيها الدولة العثمانية بالحكم الروسي الطاغي المستبد، وبأن استغلال فلسطين بأسرها وشرق نهر الأردن سوف يكون بمثابة عودة إلى ذلك الرخاء والازدهار القديم الذي عرفته أيام الرومان، ونصح أحباء صهيون بشراء كل ما يمكنهم من أراضي بيسان وجلعاد الشمالية، وأكد أن حركة الاستعمار اليهودي ليست مصطنعة بل هي حركة طبيعية صحية وليست حصيلة الشعور الديني. وقد اعتز لووتر بيسانت، بما قدمه كوندر، قائلاً: "اسمحوا لي أن أفاخر بذلك، إذا علمتم أن شخصاً واحداً (هو كوندر) قد استعاد من الأسماء القديمة [يقصد التوراتية]، أكثر مما فعله جميع الباحثين والرحالين حتى الآن".
لم يول الباحثون اهتمامهم للفترات السابقة واللاحقة حتى أصبحت حلقة التسلسل التاريخي لعنصر في كثير من الأحيان يقتصر على (إسرائيلي 1، إسرائيلي 2، وإسرائيلي 3) وهكذا.
في هذا الصدد، يقول د. معاوية إبراهيم، في دراسته، "فلسطين: من أقدم العصور إلى القرن الرابع الميلادي": أن النشاط الأثري في فلسطين قد تركز من خلال الجمعيات الآنفة الذكر (يقصد صندوق استكشاف فلسطين وغيرها من الجمعيات) التي أخذت التوراة حافزاً ومنطلقاً رئيسياً لأعمالها الميدانية، وما يترتب على هذه الأعمال من نتائج أصبح مقروناً بما ورد ذكره في الكتاب المقدس، وغدت حلقة التسلسل الزمني ترتكز على المعطيات والحوادث التوراتية، حتى إن المصطلحات للفترات الزمنية أصبحت في الغالب مستمدة من التراث.
وحاول أصحاب هذه المدارس الربط بين المواقع الأثرية وتلك التي ورد ذكرها في التوراة، وكثيراُ ما عرّفوا هذه المواقع بأسماء توراتية دون وجود دليل واضح على تبرير هذه التسميات، وما يترتب عليها من تفسيرات. فعرّفوا على سبيل المثال تل السلطان على أنه أريحا التوراتية (Jericho)، وتل المتسلم على أنه مجدو (Megiddo)، وتل أبو شوشة بالقرب من تل الجزر على أنه جيزر (Gezer)، وتل سيلون بأنه شيلو (Shiloh)، وتل الدوير بأنه لخيش (Lachish)، وتل القدح بأنه حاصور (Hazor)، والتل بأنه عيّ (Ai)، وبيتين بأنها بيت ايل (Bethel).
وقد نشأ عن هذا الأسلوب في البحث الكثير من التشويش والمغالطات التي لا يسهل التخلص منها حتى الآن. وركز الباحثون في أعمالهم الميدانية ودراساتهم على الفترات الزمنية التي اعتقدوا بأن لها علاقة بالتوراة، ولم يولوا اهتمامهم للفترات السابقة واللاحقة حتى أصبحت حلقة التسلسل التاريخي لعنصر في كثير من الأحيان يقتصر على (إسرائيلي 1، إسرائيلي 2، وإسرائيلي 3) وهكذا.
وأخيراً، فقد ترجم "صندوق استكشاف فلسطين"، الإخلاص لنص "الكتاب المقدس"، إلى الإيمان بأن فلسطين هي المسرح الجغرافي لرواية "الكتاب المقدس"، فقام بتهويد أسماء المعالم الفلسطينية، ليساهم في تحويل فلسطين إلى أرض يهودية!