بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
قراءات قرآنية - الدرس : 05 - من سورة آل عمران - الاعتصام .
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
سرّ الرقي عند الله وسرّ دخول الجنة أن ينفق الإنسان مما يحب :
أيها الأخوة ؛ في الآيات التي قرئت البارحة ، بعض الآيات ذات أهمية كبيرة جداً ، فالله سبحانه وتعالى يقول :
﴿لَنْ﴾
قبل أن نتابع الآية ؛ لن : تفيد تأبيد النفي ، لم : تفيد نفي الماضي ، ولما : تفيد نفي الحاضر ، ولن : تفيد نفي المستقبل ، أو تأبيد النفي . قال تعالى :
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
[سورة آل عمران: 92]
أي من السذاجة ، والغباء ، والجهل الفاضح أن تتصور أن جنة عرضها السموات والأرض ، تنالها بثمن بخس :
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
[سورة آل عمران: 92]
فإذا كان المال مما تحبه ، فلن تنال البر حتى تنفق المال ، وقتك ضيق جداً ، لن تنال البر حتى تنفق من وقتك وقتاً لمعرفة الله ، ووقتاً لطلب العلم ، ووقتاً لخدمة الخلق ، ووقتاً للدعوة إلى الله ، وإذا كانت مكانتك عالية جداً ، ورأيت مظلوماً ، وبإمكانك أن تنصفه ، لن تنال البر حتى تنفق من جاهك الذي متعك الله به .
فهذه الآية تبين أن سرّ الرقي عند الله عز وجل ، وسرّ دخول الجنة أن تنفق مما تحب ، الشيء الذي تحبه ينبغي أن تنفقه في سبيل الله ، كي ترقى ، والتكليف سمي تكليفاً لأنه ذو كلفة ، والتكليف يتناقض مع الطبع ، ويتوافق مع الفطرة ، يتناقض مع الطبع ، الطبع أقرب إلى المادة ، الطبع يتجه نحو النوم ، والتكليف نحو الاستيقاظ ، الطبع نحو أخذ المال ، والتكليف نحو إنفاق المال ، الطبع إطلاق البصر ، والتكليف غض البصر :
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
[سورة آل عمران: 92]
إذا لم توطن نفسك أن تضبط الشهوات ، وأن تضبط الميول ، وأن تفعل ما يرضي الله ، ولو خالفت هواك ، فلن تصل إلى شيء ، لن تنالوا البر من الله - العطاء - أي مطلق العطاء ، البر الجنة ، توفيق الله في الدنيا ، الاتصال بالله :
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
[سورة آل عمران: 92]
هذه حقيقة ، حقيقة على شكل قانون ، لن : تفيد تأبيد النفي .
الله عز وجل يحبّ المؤمنين متعاونين و متفاهمين :
الحقيقة الثانية : أن أعداء الدين منذ أن ولد الإنسان حتى نهاية الدوران ، لهم سياسة ثابتة ، وهي إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ، ففي عهد النبي عليه الصلاة والسلام اليهود في المدينة ، حينما رأوا الأوس والخزرج قد توافقوا ، وتحاببوا ، وائتلفوا ، وتناسوا ما بينهم من عداوات سابقة ، وأصبحوا أخوة كراماً ، اعتصموا بحبل الله جميعاً ، هذا الوئام والوفاق آلمهم أشدّ الألم ، فأرسلوا أحد غلمانهم ، ليذكر الأوس بقصيدة قالها بعض الخزرج في ذمهم في الجاهلية ، هذه القصيدة تليت عليهم ، أخذت بعضهم الحمية ، وكانوا حديثي عهد بالإسلام ، فتلاسن القوم ، تماسك القوم ، سلوا سيوفهم ، كادت تقع فتنة بين الأوس والخزرج ، بسبب هذه القصيدة التي ألقيت على مسامعهم ، بدافع من أحد يهود المدينة ، فقام النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
((أتفعلون هذا وأنا بين أظهركم؟))
وعنفهم أشدّ التعنيف ، لكن آيات كريمة نزلت في هذه الحادثة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
[سورة آل عمران:100]
دقة الآية أن الله وصف العداوة بين المؤمنين كفراً :
﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
[سورة آل عمران:100]
مرة ثانية :
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾
أي كيف تختصمون ؟ فالإنسان قبل أن يخاصم مؤمناً ، قبل أن يفرق المؤمنين ، قبل أن يجعل المؤمنين شيعاً وأحزاباً ، قبل أن ينتمي إلى مجموعة صغيرة ، ويكفر البقية ، قبل أن ينتقص من قيمة المؤمنين الآخرين ، قبل أن يطعن بإيمان المؤمنين ، قبل أن يفرق جماعة المؤمنين ، قبل أن يفعل هذا ، ليقرأ هذه الآية :
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
[سورة آل عمران:101]
الله جل جلاله لا يرضيه إلا أن نكون متحدين ، متعاونين ، متفاهمين .
(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ ، والمُتجالِسينَ فيَّ ، والمُتزاورينَ فيَّ ، والمتباذلينَ فيَّ ، المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور ، يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ ))
[الترمذي ومالك عن معاذ بن جبل]
أي أنت كن أداة توفيق ، أداة جمع ، عليك أن تلم الشمل ، أن ترأب الصدع ، أن تقرب وجهات النظر ، أن تزيل هذا الجفاء بين المؤمنين ، أما إذا عمقت الخلاف ، وآثرت العداوة والبغضاء ، فأنت تفعل شيئاً سماه الله في القرآن الكريم كفراً :
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾
[سورة آل عمران:101]
التمسك بالأصول و البحث عن القواسم المشتركة دائماً :
إلا أن هذا اللقاء ؛ لقاء المؤمنين ، تعاون المؤمنين ، يحتاج إلى سبب ، أما بلا سبب فليس له معنى . قال تعالى :
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً﴾
[سورة آل عمران:103]
القرآن واحد ، الدين واحد ، النبي واحد ، السنة واحدة ، الأهداف واحدة ، الوسائل واحدة ، ما دام هناك شيء يوحد بيننا ، هذا الذي ينبغي أن نتمسك به ، لذلك ينبغي أن نبحث عن القواسم المشتركة دائماً لا على الخلافيات .
أي أنت بإمكانك أن تدعو إلى الله خمسين عاماً ، وأنت في المتفق عليه لا في المختلف عليه ، أليس في هذا الدين جذع واحد جامع ؟ ابق في هذا الجذع الواحد الجامع الموحد ، هذا هو القاسم المشترك ، وإياك أن تصل إلى الخلافيات ، كما قال الشافعي : " نتعاون فيما اتفقنا ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا ".
أن تختلف وجهات النظر ، هذا شيء مقبول ، وشيء طبيعي ، وشيء صحي في الأمور الفرعية ، أما الأصول فهي واحدة :
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾
[سورة آل عمران:103]
الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون على علم :
الآن : هناك أمر قطعي الدلالة . يقول الله عز وجل :
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾
[سورة آل عمران:104]
اللام : لام الأمر ، أما من فتفيد التبعيض ، أي الإنسان إذا دعا إلى الله ، ينبغي أن يدعو على علم ، لأن العوام - كما قال الغزالي - لأن ترتكب الكبائر ، أهون عند الله من أن تقول على الله ما لا تعلم .
الدعوة إلى الله من غير علم خطيرة جداً ، لأن الدعوة إلى الله بناء للنفوس ، فإذا بنيت النفوس بناء غير صحيح ، شوهت النفوس ، فلذلك : الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون على علم ، إذا الإنسان لا يحسن الدعوة إلى الله ، ليتقن عمله الذي أقامه الله به ، وليخلص أداء هذا العمل ، وليقصد به خدمة المسلمين ، وليدع الدعوة إلى الله لأهلها ، لأن هنا من للتبعيض ، لم يقل : وادع إلى الله جميعاً . قال :
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾
[سورة آل عمران:104]
قانون الخوف :
النقطة الدقيقة جداً : قانون الخوف ، الخوف شيء مدمر ، الإنسان عندما يخاف من شيء مدمر ، هذا الخوف هو الذي يدمر سعادة الإنسان ، أي قد يكون إنسان ينعم بأعلى درجة من المال ، والغنى ، والجاه ، لكن في قلبه خوفاً ، هذا الخوف يفسد عليه سعادته ، انتهى، أنت من خوف الفقر في فقر ، وأنت من خوف المرض في مرض ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها ، إذا أردت القانون ، قانون الخوف في القرآن الكريم ، اسمع الآية :
﴿سَنُلْقِي﴾
الخوف : شيء يخلقه الله ، يخلق :
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾
السبب ، القانون :
﴿بِمَا أَشْرَكُوا﴾
[سورة آل عمران:151]
الباء : باء السببية ، أي كل إنسان أشرك بالله ، عقاب له على شركه يلقي الله في قلبه الخوف :
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾
فالإنسان يطمئن بقدر توحيده ، ويخاف بقدر شركه ، يطمئن إذا وحد . الله عز وجل قال :
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾
[سورة الشعراء:213]
أنت مطمئن بقدر توحيدك ، وأنت خائف بقدر شركك ، قانون .
والحقيقة أدق الآيات في كتاب الله هي الآيات التي تأخذ شكل القانون .
قانون الانفضاض و الالتفاف :
هناك قانون ثالث ؛ الباء أحياناً لها أكثر من عشرة معان ، من أبرز معانيها : السببية ، أي بتأخرك عن الدوام ، خصمت لك هذا الراتب ، أي سبب خصمي هذا الراتب تأخرك عن هذا الدوام :
﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾
[سورة النساء:160]
الباء : باء السبب . الله عز وجل يقول :
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
لينك ، ولطفك ، ومودتك ، وتبشيرك لا تنفيرك ، التيسير لا التعسير ، التواضع ، كل صفات النبي الكاملة ترِد في هذه الآية ، إلى رحمة استقرت في قلب النبي :
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
إذاً بعد أن لنت لهم ، أقبلوا عليك ، وهفت قلوبهم إليك ، وأحبوك ، واجتمعوا حولك ، ونفذوا أمرك، وفدوك بمهجهم ، لأنك لنت لهم ، لأن في قلبك رحمة استقرت في قلبك ، العكس :
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً ﴾
لو أن هذه الرحمة انعدمت في قلبك ، لكنت فظاً غليظ القلب ، وحينما تكون فظاً غليظ القلب ، ينفض الناس من حولك ، قانون ثان ، اتصال بالله ، رحمة ، لين ، اجتماع القلوب حولك ، انقطاع عن الله ، قسوة ، فظاظة ، نفور الناس منك ، فإذا أردت أن تهفو القلوب إليك فاتصل بالله ، كي تستقر الرحمة في قلبك ، كي تكون ليناً ، عندئذ يجتمع الناس حولك :
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾
[سورة آل عمران:159]
قراءات قرآنية - الدرس : 05 - من سورة آل عمران - الاعتصام .
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
سرّ الرقي عند الله وسرّ دخول الجنة أن ينفق الإنسان مما يحب :
أيها الأخوة ؛ في الآيات التي قرئت البارحة ، بعض الآيات ذات أهمية كبيرة جداً ، فالله سبحانه وتعالى يقول :
﴿لَنْ﴾
قبل أن نتابع الآية ؛ لن : تفيد تأبيد النفي ، لم : تفيد نفي الماضي ، ولما : تفيد نفي الحاضر ، ولن : تفيد نفي المستقبل ، أو تأبيد النفي . قال تعالى :
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
[سورة آل عمران: 92]
أي من السذاجة ، والغباء ، والجهل الفاضح أن تتصور أن جنة عرضها السموات والأرض ، تنالها بثمن بخس :
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
[سورة آل عمران: 92]
فإذا كان المال مما تحبه ، فلن تنال البر حتى تنفق المال ، وقتك ضيق جداً ، لن تنال البر حتى تنفق من وقتك وقتاً لمعرفة الله ، ووقتاً لطلب العلم ، ووقتاً لخدمة الخلق ، ووقتاً للدعوة إلى الله ، وإذا كانت مكانتك عالية جداً ، ورأيت مظلوماً ، وبإمكانك أن تنصفه ، لن تنال البر حتى تنفق من جاهك الذي متعك الله به .
فهذه الآية تبين أن سرّ الرقي عند الله عز وجل ، وسرّ دخول الجنة أن تنفق مما تحب ، الشيء الذي تحبه ينبغي أن تنفقه في سبيل الله ، كي ترقى ، والتكليف سمي تكليفاً لأنه ذو كلفة ، والتكليف يتناقض مع الطبع ، ويتوافق مع الفطرة ، يتناقض مع الطبع ، الطبع أقرب إلى المادة ، الطبع يتجه نحو النوم ، والتكليف نحو الاستيقاظ ، الطبع نحو أخذ المال ، والتكليف نحو إنفاق المال ، الطبع إطلاق البصر ، والتكليف غض البصر :
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
[سورة آل عمران: 92]
إذا لم توطن نفسك أن تضبط الشهوات ، وأن تضبط الميول ، وأن تفعل ما يرضي الله ، ولو خالفت هواك ، فلن تصل إلى شيء ، لن تنالوا البر من الله - العطاء - أي مطلق العطاء ، البر الجنة ، توفيق الله في الدنيا ، الاتصال بالله :
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
[سورة آل عمران: 92]
هذه حقيقة ، حقيقة على شكل قانون ، لن : تفيد تأبيد النفي .
الله عز وجل يحبّ المؤمنين متعاونين و متفاهمين :
الحقيقة الثانية : أن أعداء الدين منذ أن ولد الإنسان حتى نهاية الدوران ، لهم سياسة ثابتة ، وهي إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ، ففي عهد النبي عليه الصلاة والسلام اليهود في المدينة ، حينما رأوا الأوس والخزرج قد توافقوا ، وتحاببوا ، وائتلفوا ، وتناسوا ما بينهم من عداوات سابقة ، وأصبحوا أخوة كراماً ، اعتصموا بحبل الله جميعاً ، هذا الوئام والوفاق آلمهم أشدّ الألم ، فأرسلوا أحد غلمانهم ، ليذكر الأوس بقصيدة قالها بعض الخزرج في ذمهم في الجاهلية ، هذه القصيدة تليت عليهم ، أخذت بعضهم الحمية ، وكانوا حديثي عهد بالإسلام ، فتلاسن القوم ، تماسك القوم ، سلوا سيوفهم ، كادت تقع فتنة بين الأوس والخزرج ، بسبب هذه القصيدة التي ألقيت على مسامعهم ، بدافع من أحد يهود المدينة ، فقام النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
((أتفعلون هذا وأنا بين أظهركم؟))
وعنفهم أشدّ التعنيف ، لكن آيات كريمة نزلت في هذه الحادثة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
[سورة آل عمران:100]
دقة الآية أن الله وصف العداوة بين المؤمنين كفراً :
﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
[سورة آل عمران:100]
مرة ثانية :
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾
أي كيف تختصمون ؟ فالإنسان قبل أن يخاصم مؤمناً ، قبل أن يفرق المؤمنين ، قبل أن يجعل المؤمنين شيعاً وأحزاباً ، قبل أن ينتمي إلى مجموعة صغيرة ، ويكفر البقية ، قبل أن ينتقص من قيمة المؤمنين الآخرين ، قبل أن يطعن بإيمان المؤمنين ، قبل أن يفرق جماعة المؤمنين ، قبل أن يفعل هذا ، ليقرأ هذه الآية :
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
[سورة آل عمران:101]
الله جل جلاله لا يرضيه إلا أن نكون متحدين ، متعاونين ، متفاهمين .
(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ ، والمُتجالِسينَ فيَّ ، والمُتزاورينَ فيَّ ، والمتباذلينَ فيَّ ، المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور ، يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ ))
[الترمذي ومالك عن معاذ بن جبل]
أي أنت كن أداة توفيق ، أداة جمع ، عليك أن تلم الشمل ، أن ترأب الصدع ، أن تقرب وجهات النظر ، أن تزيل هذا الجفاء بين المؤمنين ، أما إذا عمقت الخلاف ، وآثرت العداوة والبغضاء ، فأنت تفعل شيئاً سماه الله في القرآن الكريم كفراً :
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾
[سورة آل عمران:101]
التمسك بالأصول و البحث عن القواسم المشتركة دائماً :
إلا أن هذا اللقاء ؛ لقاء المؤمنين ، تعاون المؤمنين ، يحتاج إلى سبب ، أما بلا سبب فليس له معنى . قال تعالى :
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً﴾
[سورة آل عمران:103]
القرآن واحد ، الدين واحد ، النبي واحد ، السنة واحدة ، الأهداف واحدة ، الوسائل واحدة ، ما دام هناك شيء يوحد بيننا ، هذا الذي ينبغي أن نتمسك به ، لذلك ينبغي أن نبحث عن القواسم المشتركة دائماً لا على الخلافيات .
أي أنت بإمكانك أن تدعو إلى الله خمسين عاماً ، وأنت في المتفق عليه لا في المختلف عليه ، أليس في هذا الدين جذع واحد جامع ؟ ابق في هذا الجذع الواحد الجامع الموحد ، هذا هو القاسم المشترك ، وإياك أن تصل إلى الخلافيات ، كما قال الشافعي : " نتعاون فيما اتفقنا ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا ".
أن تختلف وجهات النظر ، هذا شيء مقبول ، وشيء طبيعي ، وشيء صحي في الأمور الفرعية ، أما الأصول فهي واحدة :
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾
[سورة آل عمران:103]
الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون على علم :
الآن : هناك أمر قطعي الدلالة . يقول الله عز وجل :
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾
[سورة آل عمران:104]
اللام : لام الأمر ، أما من فتفيد التبعيض ، أي الإنسان إذا دعا إلى الله ، ينبغي أن يدعو على علم ، لأن العوام - كما قال الغزالي - لأن ترتكب الكبائر ، أهون عند الله من أن تقول على الله ما لا تعلم .
الدعوة إلى الله من غير علم خطيرة جداً ، لأن الدعوة إلى الله بناء للنفوس ، فإذا بنيت النفوس بناء غير صحيح ، شوهت النفوس ، فلذلك : الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون على علم ، إذا الإنسان لا يحسن الدعوة إلى الله ، ليتقن عمله الذي أقامه الله به ، وليخلص أداء هذا العمل ، وليقصد به خدمة المسلمين ، وليدع الدعوة إلى الله لأهلها ، لأن هنا من للتبعيض ، لم يقل : وادع إلى الله جميعاً . قال :
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾
[سورة آل عمران:104]
قانون الخوف :
النقطة الدقيقة جداً : قانون الخوف ، الخوف شيء مدمر ، الإنسان عندما يخاف من شيء مدمر ، هذا الخوف هو الذي يدمر سعادة الإنسان ، أي قد يكون إنسان ينعم بأعلى درجة من المال ، والغنى ، والجاه ، لكن في قلبه خوفاً ، هذا الخوف يفسد عليه سعادته ، انتهى، أنت من خوف الفقر في فقر ، وأنت من خوف المرض في مرض ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها ، إذا أردت القانون ، قانون الخوف في القرآن الكريم ، اسمع الآية :
﴿سَنُلْقِي﴾
الخوف : شيء يخلقه الله ، يخلق :
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾
السبب ، القانون :
﴿بِمَا أَشْرَكُوا﴾
[سورة آل عمران:151]
الباء : باء السببية ، أي كل إنسان أشرك بالله ، عقاب له على شركه يلقي الله في قلبه الخوف :
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾
فالإنسان يطمئن بقدر توحيده ، ويخاف بقدر شركه ، يطمئن إذا وحد . الله عز وجل قال :
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾
[سورة الشعراء:213]
أنت مطمئن بقدر توحيدك ، وأنت خائف بقدر شركك ، قانون .
والحقيقة أدق الآيات في كتاب الله هي الآيات التي تأخذ شكل القانون .
قانون الانفضاض و الالتفاف :
هناك قانون ثالث ؛ الباء أحياناً لها أكثر من عشرة معان ، من أبرز معانيها : السببية ، أي بتأخرك عن الدوام ، خصمت لك هذا الراتب ، أي سبب خصمي هذا الراتب تأخرك عن هذا الدوام :
﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾
[سورة النساء:160]
الباء : باء السبب . الله عز وجل يقول :
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
لينك ، ولطفك ، ومودتك ، وتبشيرك لا تنفيرك ، التيسير لا التعسير ، التواضع ، كل صفات النبي الكاملة ترِد في هذه الآية ، إلى رحمة استقرت في قلب النبي :
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
إذاً بعد أن لنت لهم ، أقبلوا عليك ، وهفت قلوبهم إليك ، وأحبوك ، واجتمعوا حولك ، ونفذوا أمرك، وفدوك بمهجهم ، لأنك لنت لهم ، لأن في قلبك رحمة استقرت في قلبك ، العكس :
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً ﴾
لو أن هذه الرحمة انعدمت في قلبك ، لكنت فظاً غليظ القلب ، وحينما تكون فظاً غليظ القلب ، ينفض الناس من حولك ، قانون ثان ، اتصال بالله ، رحمة ، لين ، اجتماع القلوب حولك ، انقطاع عن الله ، قسوة ، فظاظة ، نفور الناس منك ، فإذا أردت أن تهفو القلوب إليك فاتصل بالله ، كي تستقر الرحمة في قلبك ، كي تكون ليناً ، عندئذ يجتمع الناس حولك :
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾
[سورة آل عمران:159]