تتجلّى في مشهد حرب الإبادة التي تشنّ على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أوجه متعددة، منسجمة أحيانًا ومتناقضة إلى حدّ اللامعقول أحيانًا أخرى. يجتمع في ذات المشهد مأساة إنسانية لم يعرفها الشعب الفلسطيني من قبل، سوى في بعض جوانب نكبة 1948م، حيث تجاوز عدد الشهداء والجرحى الـ 120 ألفًا، وتجرّع كل مواطن في غزة آلامًا لم يعهدها فلسطيني من قبل. دمّر ما يزيد على 70% من العمران في القطاع، وأبيدت بشكل كامل قطاعات الخدمة العامة: الصحية، والتعليمية، والدفاع المدني.
في الوجه الآخر للمشهد، تنتصب البطولة بأبلغ ما لها من معانٍ. يجسد رجال المقاومة الفلسطينية كل معاني القوة والصلابة والتحدي وقهر الظروف غير المواتية دومًا، مستلهمين كل ما عرفت أمتهم وشعبهم من معاني التضحية والفداء والاستبسال في مواجهة العدوان. يقف الشعب الفلسطيني شامخًا صامدًا محتسبًا ومحتضنًا مقاومته، ومشاركًا لها في رسم مشهد يفتخر به كل فلسطيني، بل وكل إنسان حر وشريف في هذه المعمورة.
في ذات المشهد، يقف الجيش الذي طالما اعتقد بأنه لا يقهر، وبأنه قادر على إنجاز أهدافه بشكل سريع وحاسم، عاجزًا عن تحقيق أيّ من أهدافه المعلنة. يتعزز الشعور بأنه يغرق في رمال غزة ويهيم في أزقة مدنها ومخيماتها دون قدرة على السيطرة على أيّ منها أو إظهار صورة نصر. لا يفلح سوى في التدمير والقتل والتخريب، فيما قيادته السياسية متشاكسة وعاجزة هي الأخرى عن بلورة مخرج أو خارطة طريق. تتنازعها الرغبة في إنهاء حرب ألحقت ضررًا بالغًا بمكانتها وصورتها على كل الصعد، والخوف من إغلاق المشهد على صورة الفشل وعدم تحقيق الأهداف.
جهود دولية دون جدوى
بُذلت جهود كثيرة على صعد مختلفة لوقف هذا العدوان ولجم آلة القتل الإسرائيلية. على الصعيد القانوني والحقوقي، تحرّكت جهات ودول مختلفة، في مقدمتها دولة جنوب أفريقيا، وأثمر حراكها في محكمة العدل الدولية، وكذلك في المحكمة الجنائية الدولية، وفي عدد من المحاكم المحلية لبعض الدول. وعلى المستوى الدبلوماسي، تحرّكت لجنة وزراء الخارجية المنبثقة عن القمة المشتركة غير العادية للجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، بالإضافة لجهود عدد من الدول الشقيقة والصديقة للشعب الفلسطيني، وبالذات الجزائر وروسيا والصين.
صدر قراران عن مجلس الأمن يدعوان لوقف الحرب، واعترف عدد من الدول بدولة فلسطين، ووضع الجيش الإسرائيلي على القائمة السوداء في الأمم المتحدة كجيش قاتل للأطفال. كل ذلك الجهد وغيره على المستوى الدولي الرسمي لم يفلح أيضًا في وقف العدوان ولجم تغول الاحتلال.
في مسار آخر رعته، وبكل أسف، الولايات المتحدة، الراعي الحصري المنحاز دومًا وغير النزيه للمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، بذل الوسطاء، خاصة القطريين والمصريين، جهودًا متواصلة، على أمل وقف العدوان. من خلال اتفاق بين الطرفين، كانت اتفاقيات باريس: الأولى، والثانية، والثالثة، ولكنها كلها لم تنجح حتى اللحظة في وقف العدوان عبر اتفاق يفضي لوقف الحرب وانسحاب قوات الاحتلال بشكل كامل من قطاع غزة وصفقة تبادل للأسرى، وذلك لتنصّل الاحتلال وتهرّبه من تطبيقها، رغم الموافقة الأميركية أكثر من مرّة عليها.
تعنّت إسرائيلي مدعوم
يستند رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في موقفه المتعنت والرافض لأي اتفاق يفضي لوقف الحرب، إلى عدة أمور.
أولها: الموقف المتماسك للحكومة المتطرفة التي يرأسها وضمان أغلبية مستقرة في الكنيست الإسرائيلي. استمرار دعم غالبية الجمهور في الكيان لهذه الحرب، وعدم تنامي الاحتجاجات الشعبية الرافضة لها، أو عدم قدرة الأحزاب والقيادات السياسية والعسكرية الرافضة للحرب على التأثير على الجمهور. ففي استطلاع لمعهد بيو الأميركي نُشر الشهر الماضي، يعتقد 67% من الإسرائيليين بأن دولتهم ستحقق أهدافها من الحرب.
أضف إلى ذلك أنه لم يتحقق أي من الأهداف المعلنة للحرب، مما يعني، من وجهة نظرهم، أنها يجب أن تستمر لتحقيق تلك الأهداف، والمتمثلة في القضاء على حماس، وتحرير الأسرى الإسرائيليين، وضمان عدم تكرار هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول مرة أخرى.
الأمر الثاني: هو الدعم الأميركي المفتوح والمضمون لإسرائيل بمعزل عن موقف الإدارة الأميركية أو الرئيس بايدن. فقد بات من الواضح أن النفوذ الكبير لجماعات الضغط والمصالح والشخصيات الصهيونية في الولايات المتحدة، يجعل الإدارة عاجزة عن تمرير رؤيتها، إذا ما كانت حقًا مختلفة عن رؤية نتنياهو، وفرضها على حكومة الاحتلال. فالولايات المتحدة مع إسرائيل في كل الأوقات والأحوال وبمعزل عمن يسكن البيت الأبيض.
ثالثًا: الضعف العربي والإسلامي والدولي وعدم القدرة على ممارسة الضغط الكافي بوسائله المختلفة، لفرض وقف إطلاق النار. فلولا حالات محدودة تمكّنت من الإفلات من الهيمنة الأميركية، مثل: إيران، واليمن، ولبنان، وجنوب أفريقيا، وبعض الدول الإسلامية، والأوروبية، لَبدَا المشهد قاتمًا إلى حد الاختناق، ولفقد العالم الأمل في أي تغيير مستقبلي في المشهد الدولي.
فواعل قادرة على وقف العدوان
خلاصة المشهد اليوم، صمود وبطولة فلسطينية، ومقاومة عصية على الانكسار ومسنودة من جبهات التضامن في لبنان، واليمن. يقابل ذلك عنادٌ وتعنّت صهيوني، ومحدودية تأثير للجهود الدولية، ودعم أميركي غير محدود وغير مرتبط بموقف ساكن البيت الأبيض. استمرار هذه الصيغة دون تغيير يعني استمرار الحرب وعدم وجود أفق واضح لنهايتها. بقراءة متأنية لمكونات المشهد المختلفة يمكن التوقف عند بعض المكونات التي يمكن أن تحدث تأثيرًا حقيقيًا في مسار المعركة.
جهدها بالأساس ينبغي أن يتركز في الضغط على الجبهة الداخلية للاحتلال بمكوناته المختلفة: السياسية، والعسكرية، والاقتصادية لإحداث تغيير في مواقفها. ومصدره يمكن أن يكون أحد الأطراف الآتية:
أولًا: تحوّل جدي في الضفة الغربية وانخراط حقيقي شعبي ومقاوم في المواجهة مع الاحتلال. هذا التحوّل هو ما عبّرت الولايات المتحدة الأميركية والأجهزة الأمنية في إسرائيل عن خشيتها منه منذ بداية الحرب. عملت الولايات المتحدة، وبكل أسف، على الحيلولة دونه، فقد عملت بشكل مكثف مع السلطة الفلسطينية في رام الله والأجهزة الأمنية للاحتلال لضمان الاستمرار في الهدوء في جبهة الضفة. رغم المواجهات التي لم تتوقف، وبالذات في شمال الضفة الغربية، والتي استشهد فيها مئات الفلسطينيين خلال الثمانية أشهر الماضية، فإن مشاركة الضفة حتى اللحظة لم تكن فعالة بالقدر الذي يساهم في لجم العدوان الصهيوني على غزة. يدرك الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أن نتائج الحرب في غزة ستنعكس عليه بشكل مباشر وأسرع من المتوقع. وهو منحاز بشكل كبير للمقاومة ومشروعها ولطوفان الأقصى وتداعياته المختلفة، وهو ما أظهرته استطلاعات الرأي المتكررة خلال الحرب. كما أنه لا يعوِّل على قيادة السلطة وسلوكها السياسي، ولكنه في ذات الوقت لم يتمكن حتى اللحظة من الإفلات من قبضة وقيود أوسلو وسلطتها.
ثانيًا: تطور في أداء حزب الله وزيادة ملحوظة في الضغط على الاحتلال وجبهته الداخلية. المستوى الحالي من الاشتباك مع الاحتلال في الجهة الشمالية، جبهة حزب الله، رغم ما يولده من ضغط على الاحتلال بمستويات ومجالات مختلفة، لا يبدو كافيًا لوقف العدوان على غزة. الانتقال بهذا الاشتباك إلى مستويات مختلفة، رغم ما يحمله من أخطار، أمر ضروري ولا مفرّ منه. من خلال رفع وتيرة المعركة وصولًا إلى الاستعداد لخوض الحرب لمساندة الشعب الفلسطيني في غزة، سيكون حزب الله قد سجّل موقفًا تاريخيًا سيكون له ما بعده، وسينقل الحزب إلى مكانة مختلفة على مستوى الشعوب العربية والإسلامية. كما أنه سيقطع الطريق، وبالحد الأدنى سيضعف إمكانية، أن يكون هو الهدف التالي لعدوان الاحتلال وحلفائه. فرفع مستوى المواجهة وإظهار قدر عالٍ من التحدي والإرادة في المواجهة قد يقود إلى ردع الإسرائيلي وحليفه الأميركي.
ثالثًا: تحول في الأداء السياسي لقيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير ابتداءً، ثم للقوى المؤثرة في العالمين العربي والإسلامي. يشكل الموقف والسلوك السياسي، لقيادة السلطة بالذات، نقطة ضعف أساسية في المشهد. بل إنه من العوامل الهامة التي تطيل أمدَ المعركة، وتوفر الذرائع للاحتلال وداعميه للاستمرار في العدوان، بحجة تحدي اليوم التالي للمعركة وإدارة القطاع والشأن الفلسطينيّ. إنّ تغيير الموقف والسلوك السياسي لقيادة السلطة بوصفها الطرف الذي يمثّل الفلسطينيين في المؤسّسات الدولية والإقليمية أمرٌ في غاية الأهمية، وهو ما ينبغي العمل عليه من قِبل كل القوى الفلسطينية. لعلَّ مبادرة عقد مؤتمر وطني التي يتم العمل عليها من قبل بعض النخب والتجمعات الفلسطينية إحدى الأدوات التي يمكن أن تؤثر في المشهد.إحداث تغيير على موقف وشكل القيادة السياسية الفلسطينية هو واجب الفلسطينيين قبل غيرهم، وهو مدخل مهم للضغط من أجل تغيير وتطوير الموقف العربي والإسلامي. لا بدّ للقوى والتجمعات الفلسطينية من بذل كل الجهد واستخدام كل الوسائل لإحداث هذا التغيير؛ لأن إدارة معركة بهذا الحجم والتصدي للتحديات والفرص الناجمة عنها يحتاج لقيادة "رسمية" منسجمة وملتحمة مع شعبها ومعبّرة عن الأداء الميداني والصمود الاستثنائي.
سيتبادر إلى الذهن أن هذه التحولات والتطورات التي لم تحدث خلال الأشهر التسعة الماضية لن تحدث في المستقبل القريب، وأن من لديه القدرة أو الإرادة لتقديم المزيد قد فعل. انتظار التغيير لدى هذه الأطراف هو تفكير رغائبي وحالم، وقد يبدو من يفكّر بهذه الطريقة موضوعيًا أو محقًا، لكن الواقعية والموضوعية أيضًا تشير إلى أن الواقع معقّد وصعب ويحمل الكثير من المخاطر على مختلف الأطراف، بما فيها الاحتلال والولايات المتحدة.
تحوّل أو تطوّر محدود في أحد العوامل أو لدى أحد الفواعل قد يغيّر المعادلة وموازين القوى. ليس بالضرورة أن تكون المواقف المعلنة هي الحقيقية، بل هي غالبًا ليست كذلك. الادعاء بأن الاحتلال يتهيأ لحرب في الشمال، وأن نتنياهو مصرٌّ على تحقيق أهدافه من الحرب كما أعلنها في الأيام الأولى للمعركة، هو غالبًا جزء من الإدارة الإعلاميّة والسياسية للمعركة، وغير معبّر عن حقيقة الموقف.
إذا لم يكن كذلك، فذلك يعني أننا أمام حكومة تشبه إلى حد كبير الأنظمة الإجرامية المريضة، التي لا تتعامل إلا مع النصر المطلق أو الهزيمة المطلقة. أثبت التاريخ أنّ الحكومات الدوغمائية والفاشية لا تتوقف إلا بالهزيمة المطلقة، وبعد فوات الأوان. هذا ما يجب العمل عليه بكل الوسائل ومن كل الأطراف المؤمنة بحقّ الشعب الفلسطيني في الحياة والتحرّر والعيش بكرامة.