بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
قراءات قرآنية - الدرس : 03 - من سورة البقرة - الإنفاق.
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
مقام الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :
أيها الأخوة الكرام ؛ إذا كانت الشمس ساطعة في رابعة النهار ، ونظرت إليها نظرة تأمل ، وفكرت ملياً ، وقلت : إنها ساطعة ، فماذا فعلت ؟ ماذا قدمت ؟
أردت من هذه المقدمة أن أصل إلى أن الإنسان إذا قال : إن الله موجود ، وإن الدين حق ، ولم يتحرك لعمل صالح يُقربه إليه ، ما فعل شيئاً ، مقامك عند الله بحجم عملك الصالح :
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأنعام:132]
في آيات الإنفاق أربعة معان دقيقة هي : 1 ـ الإخلاص :
آيات الإنفاق اليوم التي وردت في أواخر البقرة فيها أربعة معان دقيقة ؛ المعنى الأول :
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾
الإخلاص :
﴿وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
أحياناً الإنسان في علاقاته المادية ، إن كان موظفاً بدائرة ، يثبت مركزه عند رئيسه بنشاط زائد ، بدوام منضبط ، بإنجاز كثيف ، بهدية يقدمها له أحياناً ، بخدمة خاصة يقدمها ، بإظهار التفاني في العمل ، هدفه يثبت مركزه عند رئيسه ، في تثبيت مركز ، وتقوية مركز ، وبالتعبير العامي : تركيز وضع ، يقول لك : ركز حاله ، أي عمل عملاً تجاه رئيسه ، يجعل مكانته قوية عنده ؛ إما بعمل زائد ، بإخلاص ، بتفان ، بدوام منضبط ، بإنجاز كثيف ، إذاً أليس الأولى أن يثبت الإنسان مركزه عند الله ؟ والآية واضحة جداً :
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
[سورة البقرة:265]
هذا المعنى الأول ، المعنى الأول أن الإنسان إذا أنفق بإخلاص يثبت مركزه عند الله ، يقوي مكانته ، والنبي الكريم يقول : " ابتغوا الرفعة عند الله " ، أي لا تبتغوها عند الناس ، الإنسان فان ، والإنسان قد لا ينتبه ، قد لا يكافىء ، أي الإنسان ليس أهلاً لذلك ، قد يكون ليس أهلاً لتمحضه كل إخلاصك ، قد يكون غافلاً عن أعمالك ، قد تكون إمكانيته لا تستوعب أعمالك ، قد ينسى ، قد يتشاغل عنك ، تُصاب بخيبة أمل ، لكن اجعل كل إخلاصك لله عز وجل ، هذا أول معنى .
2 ـ أي شيء تنفقه يعلمه الله :
المعنى الثاني :
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾
[سورة البقرة:270]
إذا الإنسان قدم هدية ، طبعاً الشيء الأساسي أن يعلم المهدى إليه أنها من فلان ، يضعون بطاقة أحياناً ، يضعون شريطاً أحياناً ، باقة ورد ، تقدمة من فلان ، أي من لوازم الهدية أن يُعلم من تقدم إليه أنها من فلان .
فربنا عز وجل هذه حاجة عند الإنسان ، يا ربي أنا هذا العمل مني ، هذه الحاجة مضمونة :
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾
[سورة البقرة:270]
3 ـ خير الإنفاق يعود على الإنسان يوم القيامة :
المعنى الثالث :
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾
[سورة البقرة:272]
هذا الإنفاق في ظاهره لله ، أما في حقيقته فلك ، سيعود خيره عليك ، إذا الإنسان أطعم لقمة في سبيل الله يراها يوم القيامة كجبل أحد ، لقمة إذا أطعمتها في سبيل الله ، فكيف بما فوق هذه اللقمة ؟
4 ـ الخير يعود على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة :
الشيء الأخير ؛ المعنى الرابع :
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾
في الدنيا .
المعنى الأول : ثبت مركزك بالإنفاق ، المعنى الثاني : أي شيء تنفقه الله يعلمه ، المعنى الثالث : خير الإنفاق يعود عليك يوم القيامة ، والمعنى الرابع : وفي الدنيا وقبل الآخرة ، كل شيء تنفقه يعوضه الله عليك بنص هذه الآية ، وسبع آيات أخر حصراً :
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾
[سورة البقرة:272]
الشيء الخامس :
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[سورة البقرة:274]
معنى ذلك : ضمنت سلامة الماضي والمستقبل ؛ لا خوف عليهم فيما هم قادمون عليه ، ولا هم يحزنون على شيء تركوه ، هذه أكبر مكافأة .
العمل الذي يتناقض مع الطبع هو الذي يرقى بالإنسان :
النقطة الدقيقة : لما ربنا عز وجل قال :
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
[سورة آل عمران:133]
المتقون كم صفة لهم ؟ مئات الصفات ، آلاف الصفات ، لماذا أغفلها الله كلها وأبقى واحدة ؟ قال :
﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
[سورة آل عمران:133]
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾
[سورة آل عمران:134]
الإنسان أحياناً يعمل عملاً متوافقاً مع السنة ، لكن هذا العمل يتوافق مع مصلحته ، يقول لك : الزواج سنة يا أخي ، إذاً شيء جميل أن يبحث عن زوجة ، لأن الزواج سنة ، لكن الزواج شيء جديد بالنسبة لك ، شيء ممتع ، أي إذا كان الشيء قد توافق مع طبعك ، لا ترقى به ولو وافق السنة ، أخي لماذا العمل ليس عبادة ؟ العمل ممتع ، إذا أنت لك مكتب ، وتعمل ، وتربح ، وعندك محاسبون ، وأرباحك جيدة ، العمل بحدّ ذاته ممتع ، أخي العمل أليس عبادة ؟
أحياناً يتوافق عملك مع السنة ، لكن ما الذي يرقى بك ؟ العمل الذي يتناقض مع طبعك ، الإنسان طبعه أن يقبض الأموال ، الإنفاق عكس طبعه ، الآن يرقى ، فالإنسان لا يرقى إلا بالإنفاق ، بالأخذ لا يرقى ، فلذلك : الله عز وجل بدأ بصفات المتقين ، لأنهم ينفقون في السراء والضراء .
الخواطر الإيمانية من قبل الملائكة والخواطر الشيطانية من قبل الشياطين :
كتعقيب على هذه الآيات أحياناً الإنسان تأتيه خواطر تخيفه من الإنفاق ، هذه الخواطر ليعلم علم اليقين أنها من الشيطان ، الدليل :
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾
إذا أنفقتم ، يقول لك : لا تنفق مالك ، احرص عليه ، ولا تكن مجنوناً ، يأتي الإنسان خاطراً أن الإنفاق جنان ، ولا أحد ينفعك إلا قرشك ، وخبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود، هذا كله خواطر شيطانية :
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾
[سورة البقرة:268]
كل الشهوات يدعوك الشيطان إليها ، وكل الأعمال الصالحة ينهاك الشيطان عنها ، فكل إنسان تأتيه خواطر من هذا النوع ؛ إما دعوة إلى شهوة ، أو كف عن عمل صالح ، فهذه خواطر شيطانية ، الخواطر الإيمانية من قبل الملائكة ، والخواطر الشيطانية من قبل الشياطين ، ومن نوع هذه الخواطر التخويف من الفقر ، والأمر بالفحشاء والمنكر .
محاسبة الإنسان عن كل معصية تخلّ بتوازن المجتمع :
ما من معصية الله عز وجل توعد عليها بحرب من الله ورسوله إلا معصية الربا ، لأن الربا ، المال يلد المال ، وإذا ولد المال المال من دون أعمال ، تجمعت الأموال في أيد قليلة، وحرمت منها الكثرة الكثيرة ، يختل توازن المجتمع ، يصبح إنسان يملك مليوناً ، ومليون لا يملكون واحداً ، إذا اختل توازن المجتمع ، عمت الفوضى ، والثورات ، وأعمال العنف ، ودخل المجتمع البشري في سلسلة من أعمال العنف لا تنتهي ، لأن الأموال ولدت الأموال ، فأصبحت الكتلة النقدية ليست موزعة بين كل الناس ، ليس المال متداولاً بين الناس ، بين فئة قليلة ، وحينما يتداول المال بين فئة قليلة ، وتحرم منه الكثرة الكثيرة ، ممكن أن تفسر كل أعمال العنف في العالم من وراء هذا السبب ، أن الكتلة النقدية – المال - محصورة بأيد قليلة ، والكثرة الكثيرة محرومة ، فلذلك المعصية التي تؤدي إلى اضطراب المجتمع ، واختلال التوازن ، وإلى خروج الإنسان عن فطرته ، كما يقول الإمام علي : كاد الفقر أن يكون كفراً .
فإذا إنسان أخلّ بتوازن المجتمع ، فهذه معصية كبيرة جداً ، لذلك الله عز وجل توعد المرابين بحرب من الله ورسوله .
المرأة والرجل متكاملان وكل طرف كامل فيما خلق له :
هناك نقطة يعدها بعض الناس مأخذاً على الدين ، هذا المأخذ أن :
﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾
[سورة البقرة:282]
أن المرأة ناقصة ؟ الجواب : لا ، الجواب الدقيق : أنه ما زاد من عقل الرجل ، وقوة إدراكه ، واهتمامه بالقضايا العامة ، وما نقص من انفعاله ، واهتمامه بالقضايا الجزئية ، كمال فيه ، وما زاد من عاطفة المرأة ، واهتمامها بالقضايا الجزئية ، وما نقص من قوة إدراكها ، واهتمامها بالقضايا العامة ، كمال فيها .
فأحياناً يكون النقص كمالاً ، كما نقول : السيارة التي أعدت لنقل البضائع ، إذا نقصت مساحة الركاب ، وزادت مساحة البضاعة ، فهذا كمال في هذه السيارة ، أما الأخرى التي هي معدة لنقل الركاب ، فما زاد في مساحة الركاب ، ونقص في مساحة البضاعة ، كمال فيها ، فالمرأة والرجل متكاملان ، وكل طرف كامل فيما خلق له ، لذلك المرأة أحياناً حياؤها يمنعها أن تدقق ، حياؤها يمنعها أن تدقق في بعض الجرائم ؛ جريمة قتل مثلاً ، جريمة جنسية ، شدة حيائها ، وخجلها - كما يقولون- تمنعها أن تدقق ، لذلك يجب أن تكون شهادتان مقابل شهادة رجل ، ليس هذا انتقاصاً من مكانتها ، بل هي عند الله عز وجل كالرجل تماماً في التكليف ، والتشريف ، والمسؤولية .
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها :
آخر شيء بالآيات :
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
[سورة البقرة:286]
أحب من أخواننا الكرام أن ننتزع من ذهنهم نهائياً أن هذا التكليف فوق طاقتنا ، غض البصر صعب يا أخي ، النساء ، الطرقات ملأى بالنساء ، أين أذهب بعيوني ؟
إله حينما يأمر ؛ هو الذي خلق الإنسان ، هو الذي يعرف قدراته ، هو الذي يعرف وسعه ، فإياك أن تقول : هذا الأمر فوق طاقتي ، لو أنه فوق طاقتك لما أمرك الله به ، أي أمر، أداء الصلوات الخمس ، يا أخي خمس صلوات المغرب وقته ضيق ، ما دام الله أمرك بهذا الأمر فهذا الأمر ضمن طاقتك ، فكل خاطر يأتي به الشيطان ، أي يا أخي الأمور معقدة بالإسلام ، الصلوات كثيرة ، وغض البصر صعب ، لا :
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
[سورة البقرة:286]
الوسع لا تحدده أنت ، بل يحدده خالق الإنسان – الوسع- وما كلفك إلا ما أنت قادر عليه .
الفرق الكبير بين كسب واكتسب :
الشيء الأخير :
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
[سورة البقرة:286]
الإنسان له الكسب ؟ نعم ، أما الاكتساب فغير الكسب ؛ اكتسب الشيء أي أصبح ملكه ، فأنت إذا أردت أن تعمل صالحاً ، الله يمدك بالقوة ، الله عز وجل يمدك بالقوة ، فلك الأجر والقوة منه ، وإذا أراد ربك إظهار فضله عليك ، خلق الفضل ونسبه إليك ، لكن :
﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
[سورة البقرة:286]
لمجرد أن تعمل عملاً صالحاً ، سجل لك ، أما العمل السيئ فاكتسبته ؛ ينبغي أن تصر عليه ، وينبغي ألا تندم ، إذا ندمت لا يسجل ، إن لم تصر عليه لا يسجل ، أما إذا لم تندم عليه ، وأصررت عليه ، واستخرت به ، وقلت : ماذا فعلت ؟ معنى هذا أنت مصر :
﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
[سورة البقرة:286]
فالفرق بين كسب واكتسب فرق دقيق جداً .
محاسبة الله لعباده و رحمته بهم :
والنقطة الدقيقة والأخيرة في هذه السورة :
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾
هناك مرض ؛ إن ذكرته ، أو أخفيته ، لا بد من أن تحاسب عليه ، رحمة بك، فالطبيب الأب لا ينتظر أن يكون ابنه ذا لون أصفر ليقول : معه دود ، يأتيه بالدواء ، أي الأب الرحيم لا ينتظر أن يشكو ابنه مرضاً ، هو يلاحظ ، فلذلك :
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
[سورة البقرة:184]
قراءات قرآنية - الدرس : 03 - من سورة البقرة - الإنفاق.
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
مقام الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :
أيها الأخوة الكرام ؛ إذا كانت الشمس ساطعة في رابعة النهار ، ونظرت إليها نظرة تأمل ، وفكرت ملياً ، وقلت : إنها ساطعة ، فماذا فعلت ؟ ماذا قدمت ؟
أردت من هذه المقدمة أن أصل إلى أن الإنسان إذا قال : إن الله موجود ، وإن الدين حق ، ولم يتحرك لعمل صالح يُقربه إليه ، ما فعل شيئاً ، مقامك عند الله بحجم عملك الصالح :
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأنعام:132]
في آيات الإنفاق أربعة معان دقيقة هي : 1 ـ الإخلاص :
آيات الإنفاق اليوم التي وردت في أواخر البقرة فيها أربعة معان دقيقة ؛ المعنى الأول :
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾
الإخلاص :
﴿وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
أحياناً الإنسان في علاقاته المادية ، إن كان موظفاً بدائرة ، يثبت مركزه عند رئيسه بنشاط زائد ، بدوام منضبط ، بإنجاز كثيف ، بهدية يقدمها له أحياناً ، بخدمة خاصة يقدمها ، بإظهار التفاني في العمل ، هدفه يثبت مركزه عند رئيسه ، في تثبيت مركز ، وتقوية مركز ، وبالتعبير العامي : تركيز وضع ، يقول لك : ركز حاله ، أي عمل عملاً تجاه رئيسه ، يجعل مكانته قوية عنده ؛ إما بعمل زائد ، بإخلاص ، بتفان ، بدوام منضبط ، بإنجاز كثيف ، إذاً أليس الأولى أن يثبت الإنسان مركزه عند الله ؟ والآية واضحة جداً :
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
[سورة البقرة:265]
هذا المعنى الأول ، المعنى الأول أن الإنسان إذا أنفق بإخلاص يثبت مركزه عند الله ، يقوي مكانته ، والنبي الكريم يقول : " ابتغوا الرفعة عند الله " ، أي لا تبتغوها عند الناس ، الإنسان فان ، والإنسان قد لا ينتبه ، قد لا يكافىء ، أي الإنسان ليس أهلاً لذلك ، قد يكون ليس أهلاً لتمحضه كل إخلاصك ، قد يكون غافلاً عن أعمالك ، قد تكون إمكانيته لا تستوعب أعمالك ، قد ينسى ، قد يتشاغل عنك ، تُصاب بخيبة أمل ، لكن اجعل كل إخلاصك لله عز وجل ، هذا أول معنى .
2 ـ أي شيء تنفقه يعلمه الله :
المعنى الثاني :
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾
[سورة البقرة:270]
إذا الإنسان قدم هدية ، طبعاً الشيء الأساسي أن يعلم المهدى إليه أنها من فلان ، يضعون بطاقة أحياناً ، يضعون شريطاً أحياناً ، باقة ورد ، تقدمة من فلان ، أي من لوازم الهدية أن يُعلم من تقدم إليه أنها من فلان .
فربنا عز وجل هذه حاجة عند الإنسان ، يا ربي أنا هذا العمل مني ، هذه الحاجة مضمونة :
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾
[سورة البقرة:270]
3 ـ خير الإنفاق يعود على الإنسان يوم القيامة :
المعنى الثالث :
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾
[سورة البقرة:272]
هذا الإنفاق في ظاهره لله ، أما في حقيقته فلك ، سيعود خيره عليك ، إذا الإنسان أطعم لقمة في سبيل الله يراها يوم القيامة كجبل أحد ، لقمة إذا أطعمتها في سبيل الله ، فكيف بما فوق هذه اللقمة ؟
4 ـ الخير يعود على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة :
الشيء الأخير ؛ المعنى الرابع :
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾
في الدنيا .
المعنى الأول : ثبت مركزك بالإنفاق ، المعنى الثاني : أي شيء تنفقه الله يعلمه ، المعنى الثالث : خير الإنفاق يعود عليك يوم القيامة ، والمعنى الرابع : وفي الدنيا وقبل الآخرة ، كل شيء تنفقه يعوضه الله عليك بنص هذه الآية ، وسبع آيات أخر حصراً :
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾
[سورة البقرة:272]
الشيء الخامس :
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[سورة البقرة:274]
معنى ذلك : ضمنت سلامة الماضي والمستقبل ؛ لا خوف عليهم فيما هم قادمون عليه ، ولا هم يحزنون على شيء تركوه ، هذه أكبر مكافأة .
العمل الذي يتناقض مع الطبع هو الذي يرقى بالإنسان :
النقطة الدقيقة : لما ربنا عز وجل قال :
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
[سورة آل عمران:133]
المتقون كم صفة لهم ؟ مئات الصفات ، آلاف الصفات ، لماذا أغفلها الله كلها وأبقى واحدة ؟ قال :
﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
[سورة آل عمران:133]
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾
[سورة آل عمران:134]
الإنسان أحياناً يعمل عملاً متوافقاً مع السنة ، لكن هذا العمل يتوافق مع مصلحته ، يقول لك : الزواج سنة يا أخي ، إذاً شيء جميل أن يبحث عن زوجة ، لأن الزواج سنة ، لكن الزواج شيء جديد بالنسبة لك ، شيء ممتع ، أي إذا كان الشيء قد توافق مع طبعك ، لا ترقى به ولو وافق السنة ، أخي لماذا العمل ليس عبادة ؟ العمل ممتع ، إذا أنت لك مكتب ، وتعمل ، وتربح ، وعندك محاسبون ، وأرباحك جيدة ، العمل بحدّ ذاته ممتع ، أخي العمل أليس عبادة ؟
أحياناً يتوافق عملك مع السنة ، لكن ما الذي يرقى بك ؟ العمل الذي يتناقض مع طبعك ، الإنسان طبعه أن يقبض الأموال ، الإنفاق عكس طبعه ، الآن يرقى ، فالإنسان لا يرقى إلا بالإنفاق ، بالأخذ لا يرقى ، فلذلك : الله عز وجل بدأ بصفات المتقين ، لأنهم ينفقون في السراء والضراء .
الخواطر الإيمانية من قبل الملائكة والخواطر الشيطانية من قبل الشياطين :
كتعقيب على هذه الآيات أحياناً الإنسان تأتيه خواطر تخيفه من الإنفاق ، هذه الخواطر ليعلم علم اليقين أنها من الشيطان ، الدليل :
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾
إذا أنفقتم ، يقول لك : لا تنفق مالك ، احرص عليه ، ولا تكن مجنوناً ، يأتي الإنسان خاطراً أن الإنفاق جنان ، ولا أحد ينفعك إلا قرشك ، وخبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود، هذا كله خواطر شيطانية :
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾
[سورة البقرة:268]
كل الشهوات يدعوك الشيطان إليها ، وكل الأعمال الصالحة ينهاك الشيطان عنها ، فكل إنسان تأتيه خواطر من هذا النوع ؛ إما دعوة إلى شهوة ، أو كف عن عمل صالح ، فهذه خواطر شيطانية ، الخواطر الإيمانية من قبل الملائكة ، والخواطر الشيطانية من قبل الشياطين ، ومن نوع هذه الخواطر التخويف من الفقر ، والأمر بالفحشاء والمنكر .
محاسبة الإنسان عن كل معصية تخلّ بتوازن المجتمع :
ما من معصية الله عز وجل توعد عليها بحرب من الله ورسوله إلا معصية الربا ، لأن الربا ، المال يلد المال ، وإذا ولد المال المال من دون أعمال ، تجمعت الأموال في أيد قليلة، وحرمت منها الكثرة الكثيرة ، يختل توازن المجتمع ، يصبح إنسان يملك مليوناً ، ومليون لا يملكون واحداً ، إذا اختل توازن المجتمع ، عمت الفوضى ، والثورات ، وأعمال العنف ، ودخل المجتمع البشري في سلسلة من أعمال العنف لا تنتهي ، لأن الأموال ولدت الأموال ، فأصبحت الكتلة النقدية ليست موزعة بين كل الناس ، ليس المال متداولاً بين الناس ، بين فئة قليلة ، وحينما يتداول المال بين فئة قليلة ، وتحرم منه الكثرة الكثيرة ، ممكن أن تفسر كل أعمال العنف في العالم من وراء هذا السبب ، أن الكتلة النقدية – المال - محصورة بأيد قليلة ، والكثرة الكثيرة محرومة ، فلذلك المعصية التي تؤدي إلى اضطراب المجتمع ، واختلال التوازن ، وإلى خروج الإنسان عن فطرته ، كما يقول الإمام علي : كاد الفقر أن يكون كفراً .
فإذا إنسان أخلّ بتوازن المجتمع ، فهذه معصية كبيرة جداً ، لذلك الله عز وجل توعد المرابين بحرب من الله ورسوله .
المرأة والرجل متكاملان وكل طرف كامل فيما خلق له :
هناك نقطة يعدها بعض الناس مأخذاً على الدين ، هذا المأخذ أن :
﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾
[سورة البقرة:282]
أن المرأة ناقصة ؟ الجواب : لا ، الجواب الدقيق : أنه ما زاد من عقل الرجل ، وقوة إدراكه ، واهتمامه بالقضايا العامة ، وما نقص من انفعاله ، واهتمامه بالقضايا الجزئية ، كمال فيه ، وما زاد من عاطفة المرأة ، واهتمامها بالقضايا الجزئية ، وما نقص من قوة إدراكها ، واهتمامها بالقضايا العامة ، كمال فيها .
فأحياناً يكون النقص كمالاً ، كما نقول : السيارة التي أعدت لنقل البضائع ، إذا نقصت مساحة الركاب ، وزادت مساحة البضاعة ، فهذا كمال في هذه السيارة ، أما الأخرى التي هي معدة لنقل الركاب ، فما زاد في مساحة الركاب ، ونقص في مساحة البضاعة ، كمال فيها ، فالمرأة والرجل متكاملان ، وكل طرف كامل فيما خلق له ، لذلك المرأة أحياناً حياؤها يمنعها أن تدقق ، حياؤها يمنعها أن تدقق في بعض الجرائم ؛ جريمة قتل مثلاً ، جريمة جنسية ، شدة حيائها ، وخجلها - كما يقولون- تمنعها أن تدقق ، لذلك يجب أن تكون شهادتان مقابل شهادة رجل ، ليس هذا انتقاصاً من مكانتها ، بل هي عند الله عز وجل كالرجل تماماً في التكليف ، والتشريف ، والمسؤولية .
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها :
آخر شيء بالآيات :
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
[سورة البقرة:286]
أحب من أخواننا الكرام أن ننتزع من ذهنهم نهائياً أن هذا التكليف فوق طاقتنا ، غض البصر صعب يا أخي ، النساء ، الطرقات ملأى بالنساء ، أين أذهب بعيوني ؟
إله حينما يأمر ؛ هو الذي خلق الإنسان ، هو الذي يعرف قدراته ، هو الذي يعرف وسعه ، فإياك أن تقول : هذا الأمر فوق طاقتي ، لو أنه فوق طاقتك لما أمرك الله به ، أي أمر، أداء الصلوات الخمس ، يا أخي خمس صلوات المغرب وقته ضيق ، ما دام الله أمرك بهذا الأمر فهذا الأمر ضمن طاقتك ، فكل خاطر يأتي به الشيطان ، أي يا أخي الأمور معقدة بالإسلام ، الصلوات كثيرة ، وغض البصر صعب ، لا :
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
[سورة البقرة:286]
الوسع لا تحدده أنت ، بل يحدده خالق الإنسان – الوسع- وما كلفك إلا ما أنت قادر عليه .
الفرق الكبير بين كسب واكتسب :
الشيء الأخير :
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
[سورة البقرة:286]
الإنسان له الكسب ؟ نعم ، أما الاكتساب فغير الكسب ؛ اكتسب الشيء أي أصبح ملكه ، فأنت إذا أردت أن تعمل صالحاً ، الله يمدك بالقوة ، الله عز وجل يمدك بالقوة ، فلك الأجر والقوة منه ، وإذا أراد ربك إظهار فضله عليك ، خلق الفضل ونسبه إليك ، لكن :
﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
[سورة البقرة:286]
لمجرد أن تعمل عملاً صالحاً ، سجل لك ، أما العمل السيئ فاكتسبته ؛ ينبغي أن تصر عليه ، وينبغي ألا تندم ، إذا ندمت لا يسجل ، إن لم تصر عليه لا يسجل ، أما إذا لم تندم عليه ، وأصررت عليه ، واستخرت به ، وقلت : ماذا فعلت ؟ معنى هذا أنت مصر :
﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
[سورة البقرة:286]
فالفرق بين كسب واكتسب فرق دقيق جداً .
محاسبة الله لعباده و رحمته بهم :
والنقطة الدقيقة والأخيرة في هذه السورة :
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾
هناك مرض ؛ إن ذكرته ، أو أخفيته ، لا بد من أن تحاسب عليه ، رحمة بك، فالطبيب الأب لا ينتظر أن يكون ابنه ذا لون أصفر ليقول : معه دود ، يأتيه بالدواء ، أي الأب الرحيم لا ينتظر أن يشكو ابنه مرضاً ، هو يلاحظ ، فلذلك :
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
[سورة البقرة:184]