بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
قراءات قرآنية - الدرس : 04 - من سورة آل عمران - المحكم والمتشابه .
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الفرق بين الآيات المحكمات والآيات المتشابهات :
أيها الأخوة الكرام ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾
[سورة البقرة :143]
فالإسلام من أولى خصائصه الوسطية ، والحق دائماً وسط بين طرفين ، هناك من يؤمن بالتغير المطلق ، وهناك من يؤمن بالثبات المطلق ، وكلا الاتجاهين منحرف عن الصواب.
فالله سبحانه وتعالى حينما قال :
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾
[سورة آل عمران :7]
فما الفرق بين المحكمات وبين المتشابهات ؟ في الأعم الأغلب أن الآية المحكمة آية لا تحتمل إلا معنى واحداً ، آية قطعية الدلالة ، آية لا يستطيع المجتهد أن يعمل فيها ، آية لا يختلف فيها اثنان ، فالأشياء الثابتة في حياة الإنسان ، القيم الثابتة ، الأشياء التي هي سبب سعادته ، والأشياء التي هي سبب هلاكه ، جاء الأمر بها ، والنهي عنها بآيات محكمة ؛ أصول الدين ، عقائد الدين ، الأوامر ، النواهي ، الحلال ، الحرام ، الحق ، الباطل ، الخير ، الشر ، هذه كلها قيم ثابتة ، لذلك : جاء التعبير عنها بآيات محكمة ، أما الأمور التي هي خاضعة للتطور والتبدل ، بحسب الظروف ، والمعطيات ، والبيئات ، والتقدم العلمي ، والتخلف ، والازدهار الاقتصادي ، إذا كان هناك شيء في الإسلام متغيراً ففي الآيات المتشابهات ، ومعنى متشابهات أي أن هذه الآيات تحتمل عدة معان ، والله سبحانه وتعالى أراد كل المعاني ، أراد كل المعاني ، رحمة بالعباد ، وتمشياً مع التطور ، ومع التغير ، فالإسلام لا يؤمن بالثبات المطلق، والإسلام لا يؤمن بالتغير المطلق .
أخطر نظرية تهدم الأديان : نظرية التطور العلمي ، أي كل شيء نسبي ، ما هو حق هنا باطل هنا ، ما هو حلال هنا حرام هنا ، فالإسلام وسطي ، فكل من أخذ من الإسلام جانباً متطرفاً ، فقد حاد عن الصواب ، وحاد عن سواء السبيل .
فالآيات المحكمات هي أم الكتاب ، آيات قطعية الدلالة ، لا تحتمل الاجتهاد ، هي الآيات المتعلقة بأصول العقائد ، ومتعلقة بأصول الأحكام ، وأصول الدين ، هي الآيات المتعلقة بالحلال والحرام ، بالأمر والنهي ، لذلك لا يختلف عالمان في آية محكمة ، لا يختلف مجتهدان في آية محكمة ، لكن الآيات الظنية الدلالة ، إذا اجتهد فيها المجتهدون ، واختلفوا ، اختلافهم اختلاف رحمة ، واختلاف تنوع وغنى ، وليس اختلاف تضاد وتناقض .
فمن رحمة الله بالأمة أن جعل بعض الآيات القرآنية ظنية الدلالة ، كي يجتهد المجتهدون ، فيرى كل مجتهد رأياً من زاوية ، فكل هذه الآراء أرادها الله عز وجل ، وقبل أن نعبده بها ، فلذلك أي عبادة ، أو أي سلوك ، أو أي موقف ، وافق أحد المذاهب الشرعية المعتمدة فهو مقبول ، هذه نقطة متعلقة بهذه الآية الكريمة .
النصر من عند الله و الله دائماً مع المؤمنين :
يوجد آية قرآنية ، لو قرأها الكفار ، لشلت قواهم ، لو صدقها المؤمنون تصديقاً كما أراد الله ، لارتفعت معنوياتهم ، هذه الآية قرار إلهي أبدي . قال تعالى :
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
[سورة آل عمران :12]
كلام خالق الكون ، لذلك :
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
[سورة آل عمران:139]
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
[سورة آل عمران:12]
أي في الدنيا يغلبون ، وفي الآخرة يحشرون إلى جهنم ، لأن الله مع المؤمنين ، فنحن كل ما في وسعنا أن نكون كما أراد الله ، كي يكون الله معنا .
فكنت أدعو في بعض الخطب :
(( اللهم انصرنا على أنفسنا ، حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا))
لأن النصر من عند الله ، والله سبحانه وتعالى هو الذي ينصر .
الشهوات دوافع حياديّة :
الشيء الثاني ؛ قال تعالى :
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ﴾
[سورة آل عمران:14]
إلى آخر الآية . . .
أيها الأخوة ؛ لا أحد يفكر هذا التفكير الذي يقوله معظم الناس : لو أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق فينا هذه الشهوات لما عصى أحد ربه ، لولا حواء لما عصى إنسان ربه ، هكذا، هذا كلام ليس له أصل ، لأن الشهوة محرك ، والعلم مقود ، لولا الشهوة لا يوجد سير إلى الله عز وجل ، أنت بالشهوة تتحرك ، فكيف تتقرب من الله ؟ لولا هذه الشهوات لما تقربت إلى الله ، إنك بهذه الشهوات تكفها عن الحرام ، وتتوجه نحو الحلال ، تتقرب مرتين ؛ مرة بورعك وبخوفك، ومرة بشكرك ، إذاً : لا أحد يتهم الشهوات ، إنها دوافع حيادية ، يمكن أن ترقى بها ، ويمكن أن تهوي بها ، يمكن أن تكون درجات ترقى بها إلى أعلى عليين ، ويمكن أن تكون دركات يهوي بها الإنسان إلى أسفل سافلين :
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾
[سورة التين:4]
فإذا ما عرف الإنسان ربه ، وما طبق منهجه ، وأساء إلى خلقه :
﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾
[سورة التين:5]
فالإنسان يصعد ، أو يهوي ، والشهوات التي أودعها الله فيه قوى حيادية ، يمكن أن تتخذها وسائل للاتصال بالله عز وجل ، لذلك :
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ﴾
[سورة آل عمران:14]
لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسموات .
الخصومات الداخلية أخطر ما يهدد المسلمين :
هناك نقطة مهمة جداً ، وهي تحل مشكلات المسلمين اليوم ؛ الاختلاف بين المسلمين قد يكون اختلاف وجهات نظر ، هذا اختلاف فكري ، مقبول على العين والرأس ، وهذا دليل حيوية المسلمين ، ودليل طموحهم نحو معرفة الحق المعرفة التامة ، فإن اختلف المسلمون فيما بينهم ، بسبب اختلاف وجهات نظرهم ، هذا شيء مقبول ، وهذا الخلاف أحياناً تجده بين التابعين ، وبين الصحابة الكرام ؛ أن تختلف معي في الرأي ، وأن أختلف معك في الرأي ، هذا لا يقدح لا فيك ولا في ، شيء طبيعي أن نتفق في الأصول ، وأن نختلف في الفروع ، لكن الخلاف الذي ذمه الله عز وجل ليس خلاف وجهات النظر ، ولكنه خلاف الحسد ، استمعوا إلى قوله تعالى :
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾
[سورة آل عمران:19]
اختلافهم بسبب البغي ؛ أي الحسد ، لذلك : نعوذ بالله أن نختلف مع مؤمن حسداً ، يمكن أن نختلف معه عقيدة ، أما أن يختلف مسلم مع مسلم حسداً ، فهذا الخلاف من الشيطان. وقال تعالى :
﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾
[سورة الأنفال:46]
تفشلوا ؛ أي تضعفوا ، وتذهب ريحكم ؛ أي تصبح سمعتكم في الحضيض ، فهؤلاء الذين حاربوا أكبر دولة في أقصى آسيا ، وانتصروا عليها ، وكنا نفتخر بهم ، لما تقاتلوا فيما بينهم سقطوا ، أصبحوا في الوحل :
﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾
[سورة الأنفال:46]
أي أخطر ما يهدد المسلمين الخصومات الداخلية ، المحاور الداخلية ، هذا لا يرضي الله عز وجل ، لذلك الإنسان قبل أن يقول : أنا ضد فلان ليتبصر ؛ هل خلافه معه خلاف حسد أم خلاف وجهة نظر ؟ إن كان خلاف وجهة نظر ، نحترم الاثنين ، كما قال الشافعي : " نتعاون فيما اتفقنا ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا ".
اتفاق الأئمة حجة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة . الذي أريد أن أحذر منه ألا تختلف مع أخيك بسبب الحسد ، والحسد صفة ذميمة في الإنسان ، وألا نختلف بالأصول ، وألا نختلف بالأصول شيء بديهي طبعاً ، بارك الله بك .
تشابه الأديان بالتماس المقصر الحجج الواهية التي يغطي بها تقصيره :
اليهود قالوا :
﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾
[سورة آل عمران:24]
والمسلمون المقصرون يقولون : النبي يشفع لنا ، أي الأديان كلها تتشابه بأن المقصر يلتمس حجة واهية يغطي بها تقصيره ، الشفاعة حق ، وفيها أحاديث صحيحة ، ولكن لا ينالها إلا من مات غير مشرك ، فلذلك الله عز وجل قال :
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
[سورة آل عمران:24]
أما المفاجأة فإذا طالب توهم أن الأستاذ يعطي الأسئلة بهدية ثمينة ، ولم يدرس طوال السنة ، ثم فوجىء أن هذا الأستاذ نبيه جداً ، وأن هذا الطلب أبعد إليه من برج السماء ، متى عرف الحقيقة ؟ بعد فوات الأوان يصعق بهذه الحقيقة . ربنا عز وجل يقول :
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
[سورة آل عمران:25]
لا تتوهم أنه ممكن أن تعمل السيئات ، وغيرك لا ينام الليل في الصلاة ، والصيام ، وخدمة الخلق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وغض البصر ، وتحرير الدخل ، وإنفاق المال في سبيل الله ، إياك أن تتوهم أن تكون معه في درجة واحدة يوم القيامة :
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
[سورة الجاثية:21]
من السذاجة ، والبلاهة ، والغباء ، والجهل الكبير أن تتوهم أنك إذا فعلت السيئات، والنبي شفع لك ، أصبحت مع الذي عمل الصالحات ، أين عدالة الله عز وجل ؟ انظر الآية ما أدقها! :
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
[سورة آل عمران:25]
الشر المطلق لا وجود له إطلاقاً :
هناك آية هنا في القرآن تثبت أن الشر المحض لا وجود له إطلاقاً :
﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
[سورة آل عمران:26]
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
[سورة أل عمران:26]
كل هذا خير ، يوجد عندنا شر نسبي ، شر نسبي ، وشر مطلق ؛ المطلق هو الشر من أجل الشر ، هذا ما دام الله موجوداً لا وجود له ، الأمر كله بيد الله عز وجل ، لكن هناك شراً نسبياً علاجياً .
قراءات قرآنية - الدرس : 04 - من سورة آل عمران - المحكم والمتشابه .
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الفرق بين الآيات المحكمات والآيات المتشابهات :
أيها الأخوة الكرام ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾
[سورة البقرة :143]
فالإسلام من أولى خصائصه الوسطية ، والحق دائماً وسط بين طرفين ، هناك من يؤمن بالتغير المطلق ، وهناك من يؤمن بالثبات المطلق ، وكلا الاتجاهين منحرف عن الصواب.
فالله سبحانه وتعالى حينما قال :
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾
[سورة آل عمران :7]
فما الفرق بين المحكمات وبين المتشابهات ؟ في الأعم الأغلب أن الآية المحكمة آية لا تحتمل إلا معنى واحداً ، آية قطعية الدلالة ، آية لا يستطيع المجتهد أن يعمل فيها ، آية لا يختلف فيها اثنان ، فالأشياء الثابتة في حياة الإنسان ، القيم الثابتة ، الأشياء التي هي سبب سعادته ، والأشياء التي هي سبب هلاكه ، جاء الأمر بها ، والنهي عنها بآيات محكمة ؛ أصول الدين ، عقائد الدين ، الأوامر ، النواهي ، الحلال ، الحرام ، الحق ، الباطل ، الخير ، الشر ، هذه كلها قيم ثابتة ، لذلك : جاء التعبير عنها بآيات محكمة ، أما الأمور التي هي خاضعة للتطور والتبدل ، بحسب الظروف ، والمعطيات ، والبيئات ، والتقدم العلمي ، والتخلف ، والازدهار الاقتصادي ، إذا كان هناك شيء في الإسلام متغيراً ففي الآيات المتشابهات ، ومعنى متشابهات أي أن هذه الآيات تحتمل عدة معان ، والله سبحانه وتعالى أراد كل المعاني ، أراد كل المعاني ، رحمة بالعباد ، وتمشياً مع التطور ، ومع التغير ، فالإسلام لا يؤمن بالثبات المطلق، والإسلام لا يؤمن بالتغير المطلق .
أخطر نظرية تهدم الأديان : نظرية التطور العلمي ، أي كل شيء نسبي ، ما هو حق هنا باطل هنا ، ما هو حلال هنا حرام هنا ، فالإسلام وسطي ، فكل من أخذ من الإسلام جانباً متطرفاً ، فقد حاد عن الصواب ، وحاد عن سواء السبيل .
فالآيات المحكمات هي أم الكتاب ، آيات قطعية الدلالة ، لا تحتمل الاجتهاد ، هي الآيات المتعلقة بأصول العقائد ، ومتعلقة بأصول الأحكام ، وأصول الدين ، هي الآيات المتعلقة بالحلال والحرام ، بالأمر والنهي ، لذلك لا يختلف عالمان في آية محكمة ، لا يختلف مجتهدان في آية محكمة ، لكن الآيات الظنية الدلالة ، إذا اجتهد فيها المجتهدون ، واختلفوا ، اختلافهم اختلاف رحمة ، واختلاف تنوع وغنى ، وليس اختلاف تضاد وتناقض .
فمن رحمة الله بالأمة أن جعل بعض الآيات القرآنية ظنية الدلالة ، كي يجتهد المجتهدون ، فيرى كل مجتهد رأياً من زاوية ، فكل هذه الآراء أرادها الله عز وجل ، وقبل أن نعبده بها ، فلذلك أي عبادة ، أو أي سلوك ، أو أي موقف ، وافق أحد المذاهب الشرعية المعتمدة فهو مقبول ، هذه نقطة متعلقة بهذه الآية الكريمة .
النصر من عند الله و الله دائماً مع المؤمنين :
يوجد آية قرآنية ، لو قرأها الكفار ، لشلت قواهم ، لو صدقها المؤمنون تصديقاً كما أراد الله ، لارتفعت معنوياتهم ، هذه الآية قرار إلهي أبدي . قال تعالى :
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
[سورة آل عمران :12]
كلام خالق الكون ، لذلك :
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
[سورة آل عمران:139]
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
[سورة آل عمران:12]
أي في الدنيا يغلبون ، وفي الآخرة يحشرون إلى جهنم ، لأن الله مع المؤمنين ، فنحن كل ما في وسعنا أن نكون كما أراد الله ، كي يكون الله معنا .
فكنت أدعو في بعض الخطب :
(( اللهم انصرنا على أنفسنا ، حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا))
لأن النصر من عند الله ، والله سبحانه وتعالى هو الذي ينصر .
الشهوات دوافع حياديّة :
الشيء الثاني ؛ قال تعالى :
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ﴾
[سورة آل عمران:14]
إلى آخر الآية . . .
أيها الأخوة ؛ لا أحد يفكر هذا التفكير الذي يقوله معظم الناس : لو أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق فينا هذه الشهوات لما عصى أحد ربه ، لولا حواء لما عصى إنسان ربه ، هكذا، هذا كلام ليس له أصل ، لأن الشهوة محرك ، والعلم مقود ، لولا الشهوة لا يوجد سير إلى الله عز وجل ، أنت بالشهوة تتحرك ، فكيف تتقرب من الله ؟ لولا هذه الشهوات لما تقربت إلى الله ، إنك بهذه الشهوات تكفها عن الحرام ، وتتوجه نحو الحلال ، تتقرب مرتين ؛ مرة بورعك وبخوفك، ومرة بشكرك ، إذاً : لا أحد يتهم الشهوات ، إنها دوافع حيادية ، يمكن أن ترقى بها ، ويمكن أن تهوي بها ، يمكن أن تكون درجات ترقى بها إلى أعلى عليين ، ويمكن أن تكون دركات يهوي بها الإنسان إلى أسفل سافلين :
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾
[سورة التين:4]
فإذا ما عرف الإنسان ربه ، وما طبق منهجه ، وأساء إلى خلقه :
﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾
[سورة التين:5]
فالإنسان يصعد ، أو يهوي ، والشهوات التي أودعها الله فيه قوى حيادية ، يمكن أن تتخذها وسائل للاتصال بالله عز وجل ، لذلك :
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ﴾
[سورة آل عمران:14]
لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسموات .
الخصومات الداخلية أخطر ما يهدد المسلمين :
هناك نقطة مهمة جداً ، وهي تحل مشكلات المسلمين اليوم ؛ الاختلاف بين المسلمين قد يكون اختلاف وجهات نظر ، هذا اختلاف فكري ، مقبول على العين والرأس ، وهذا دليل حيوية المسلمين ، ودليل طموحهم نحو معرفة الحق المعرفة التامة ، فإن اختلف المسلمون فيما بينهم ، بسبب اختلاف وجهات نظرهم ، هذا شيء مقبول ، وهذا الخلاف أحياناً تجده بين التابعين ، وبين الصحابة الكرام ؛ أن تختلف معي في الرأي ، وأن أختلف معك في الرأي ، هذا لا يقدح لا فيك ولا في ، شيء طبيعي أن نتفق في الأصول ، وأن نختلف في الفروع ، لكن الخلاف الذي ذمه الله عز وجل ليس خلاف وجهات النظر ، ولكنه خلاف الحسد ، استمعوا إلى قوله تعالى :
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾
[سورة آل عمران:19]
اختلافهم بسبب البغي ؛ أي الحسد ، لذلك : نعوذ بالله أن نختلف مع مؤمن حسداً ، يمكن أن نختلف معه عقيدة ، أما أن يختلف مسلم مع مسلم حسداً ، فهذا الخلاف من الشيطان. وقال تعالى :
﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾
[سورة الأنفال:46]
تفشلوا ؛ أي تضعفوا ، وتذهب ريحكم ؛ أي تصبح سمعتكم في الحضيض ، فهؤلاء الذين حاربوا أكبر دولة في أقصى آسيا ، وانتصروا عليها ، وكنا نفتخر بهم ، لما تقاتلوا فيما بينهم سقطوا ، أصبحوا في الوحل :
﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾
[سورة الأنفال:46]
أي أخطر ما يهدد المسلمين الخصومات الداخلية ، المحاور الداخلية ، هذا لا يرضي الله عز وجل ، لذلك الإنسان قبل أن يقول : أنا ضد فلان ليتبصر ؛ هل خلافه معه خلاف حسد أم خلاف وجهة نظر ؟ إن كان خلاف وجهة نظر ، نحترم الاثنين ، كما قال الشافعي : " نتعاون فيما اتفقنا ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا ".
اتفاق الأئمة حجة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة . الذي أريد أن أحذر منه ألا تختلف مع أخيك بسبب الحسد ، والحسد صفة ذميمة في الإنسان ، وألا نختلف بالأصول ، وألا نختلف بالأصول شيء بديهي طبعاً ، بارك الله بك .
تشابه الأديان بالتماس المقصر الحجج الواهية التي يغطي بها تقصيره :
اليهود قالوا :
﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾
[سورة آل عمران:24]
والمسلمون المقصرون يقولون : النبي يشفع لنا ، أي الأديان كلها تتشابه بأن المقصر يلتمس حجة واهية يغطي بها تقصيره ، الشفاعة حق ، وفيها أحاديث صحيحة ، ولكن لا ينالها إلا من مات غير مشرك ، فلذلك الله عز وجل قال :
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
[سورة آل عمران:24]
أما المفاجأة فإذا طالب توهم أن الأستاذ يعطي الأسئلة بهدية ثمينة ، ولم يدرس طوال السنة ، ثم فوجىء أن هذا الأستاذ نبيه جداً ، وأن هذا الطلب أبعد إليه من برج السماء ، متى عرف الحقيقة ؟ بعد فوات الأوان يصعق بهذه الحقيقة . ربنا عز وجل يقول :
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
[سورة آل عمران:25]
لا تتوهم أنه ممكن أن تعمل السيئات ، وغيرك لا ينام الليل في الصلاة ، والصيام ، وخدمة الخلق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وغض البصر ، وتحرير الدخل ، وإنفاق المال في سبيل الله ، إياك أن تتوهم أن تكون معه في درجة واحدة يوم القيامة :
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
[سورة الجاثية:21]
من السذاجة ، والبلاهة ، والغباء ، والجهل الكبير أن تتوهم أنك إذا فعلت السيئات، والنبي شفع لك ، أصبحت مع الذي عمل الصالحات ، أين عدالة الله عز وجل ؟ انظر الآية ما أدقها! :
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
[سورة آل عمران:25]
الشر المطلق لا وجود له إطلاقاً :
هناك آية هنا في القرآن تثبت أن الشر المحض لا وجود له إطلاقاً :
﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
[سورة آل عمران:26]
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
[سورة أل عمران:26]
كل هذا خير ، يوجد عندنا شر نسبي ، شر نسبي ، وشر مطلق ؛ المطلق هو الشر من أجل الشر ، هذا ما دام الله موجوداً لا وجود له ، الأمر كله بيد الله عز وجل ، لكن هناك شراً نسبياً علاجياً .