بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
قراءات قرآنية - الدرس : 06 - من سورة آل عمران - خطوات الشيطان .
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
مخاطبة الناس بأصول الدين و مخاطبة المؤمنين بفروع الدين :
ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم كما قلت قبل يومين : يخاطب الناس بأصول الدين ، ويخاطب المؤمنين بفروع الدين ، فإذا قال الله عز وجل :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾
[سورة البقرة:21]
أما إذا قال :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾
[سورة البقرة:183]
وفي هذا تعليم لنا ؛ أنك إذا خاطبت منكراً للدين ، عليك أن تخاطبه بالأصول لا بالفروع ، وهناك مغالطة دقيقة جداً ، تقع بين مسلم يتحاور مع غير مسلم ، يقول له مثلاً : أثبت لي أنه لا وجود الجن أو الملائكة ؟ ليس هناك دليل على وجود الجن والملائكة ، إلا الدليل النقلي الذي جاء في القرآن الكريم ، وهو ينكر أصل الدين ، فلذلك : ربنا سبحانه وتعالى خاطب الناس بأصول الدين ، وخاطب المؤمنين بفروع الدين ، هذه حقيقة ، وفي الوقت نفسه تعليم لنا ، ولكن حينما قال الله عز وجل :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾
[سورة البقرة:168]
معنى ذلك أن هذا المنهج الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، أو جاء في القرآن الكريم ، هو العلاقة بين تطبيقه ونتائجه و هذه العلاقة علاقة علمية ، بمعنى أن أي إنسان لو أنكر أصل الدين ، لو طبق في حياته منهج الله عز وجل ، لقطف الثمار في الدنيا ، وهذا الذي نشاهده الآن .
التمسك بمنهج الوسطية :
العالم قبل عقد من الزمن ، كان منقسماً إلى فريقين ؛ فريق آمن بالفرد على حساب المجموع ، وفريق آمن بالمجموع على حساب الفرد ، وكلا الفريقين تفرق ، ثم إن كلا الفريقين عاد إلى الدين ، لا عن إيمان به ، ولا عن اعتقاد بالذي أنزله ، إلا أن معطيات العلم وحدها أكدت أن خير منهج للبشر هذا المنهج المتوسط في كل شيء ، ليس هناك إفراط ولا تفريط ، ليس هناك مبالغة ولا تسييب ، هذا المنهج الوسطي . قال تعالى :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾
[سورة البقرة:143]
مثلاً النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بالختان ، الآن أكثر الجهات العلمية في أوروبا ، وأمريكا ، تختن المواليد ، السبب لأن نسب سرطان عنق الرحم في البلاد الإسلامية يكاد يكون معدوماً ، أو قليلاً جداً ، سرطان الأعضاء المذكرة ، وعنق الرحم في العالم الإسلامي ، يكاد يكون معدوماً .
الاتحاد السوفييتي قبل أن ينحل إلى دول عديدة ، أصدر قانوناً بتحريم الخمر ، لأنه آمن بالله ؟ لا والله ، لكن لأنه وجد أن هذا الشراب يضعف القدرة الإنتاجية في المجتمع ، ويسبب جرائم لا نهاية لها ، فأصدر قانوناً في تحريم الخمر قبل سنوات تقريباً ، حتى أن أي احتفال في سفارة تابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً لم تقدم الخمر في احتفالها الرسمي ، لا لأنهم آمنوا بالله ، بل لأن العلاقة بين الأمر ونتيجته علاقة علمية ، أي كل أمر فيه بذور نتائجه ، وكل نهي فيه بذور مخاطره ، فلذلك هذا المنهج لو أن إنساناً عادياً ، ليس مؤمناً بالله عز وجل ، ولا باليوم الآخر ، طبقه ، لسعد في دنياه وأخراه .
أُرسلت لجنة من الأمم المتحدة إلى العالم الإسلامي ، منطلقين من أن المرأة المسلمة مظلومة ، ومقهورة ، ومضطهدة ، فأرادوا أن يستطلعوا ، خمس نساء ، لهم مشرفة ، وأربع نساء معها لجنة طافت العالم الإسلامي لفترة طويلة ، من أجل أن تقف على حقيقة وضع المرأة المسلمة ، النتيجة أن هذا الوفد المؤلف من خمس نساء كلهن أسلمن بالضبط .
الإحصاءات الدقيقة الآن أن العالم الإسلامي ، أو الجاليات المسلمة في أوروبا ، وأمريكا ، أقل نسب الجرائم فيها ، تتمتع بأعلى دخول ، واستقرار أسري ، وأقل انحراف ، الدول الإسلامية تعد الحزام الأخضر لمرض الإيدز ، الحزام الأخضر ، المنطقة العازلة . أي :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾
[سورة البقرة:168]
العلاقة بين المنهج ونتائجه علاقة علميّة :
منهج الله عز وجل لو طبقه الملحد ، لو طبقه الكافر ، لو طبقه كافر بالله ، كافر باليوم الآخر ، لقطف ثماره ، السبب لأن العلاقة بين هذا المنهج ونتائجه علاقة علمية ، علاقة سبب بنتيجة .
كتاب شهير جداً ، اسمه : " الإنسان ذلك المجهول " قد لا تصدقون أن في ثنيات هذا الكتاب ، كلمة تقول :
(( إن خير نظام للبشرية أن يقصر الرجل طرفه على زوجة واحدة))
أي غض البصر الذي ورد في كتاب الله ، لماذا الإنسان يشعر بالسعادة في بيته ؟ لأنه ليس في عالمه إلا زوجته ، ليس له حق أن ينظر لغيرها ، إلا المحارم طبعاً .
مدير السجون بأمريكا ، حينما تقاعد من عمله ، كتب وصية لرؤسائه ، يقول : دعوا السجون للمسلمين ، إنهم أقدر على إدارتها ، وعلى تربية المساجين فيها ، وهو كسلوكي متعصب ، قال : دعوا السجون للمسلمين .
العالم الآن مما يلفت النظر رأى أن الحل في هذا الدين ، الخلاص في هذا الدين ، ما من نظام وضعي إلا ثبت إخفاقه المريع والشديد ، لذلك : في آية واحدة يبين الله عز وجل أن هذا المنهج ليس المقصود الحلال الطيب فقط ، أراد الجزء ، وعنى بالكل ، هذا شيء من المجاز العقلي . مثلاً :
﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ﴾
[سورة البقرة:19]
الآذان لا تتسع إلا لإصبع واحدة ، هنا أراد الكل ، لفظ الكل ، وأراد الجزء .
أحياناً : يقول الأول للثاني : أريد نقطة ماء بالله عليك ، هل يعطيه قطارة ويقول له: خذ نقطة ماء ، يأتيه بكأس من الماء ، هو ذكر الجزء ، وأراد الكل ، هذا مجاز عقلي ، فلذلك : الله عز وجل ذكر الحلال الطيب ، وأراد كل منهج الله عز وجل ، أي إنسان ، ولو كان كافراً بالله عز وجل ، لو طبق قواعد الإسلام ، لقطف ثمارها ، لكن الفرق بين إنسان بعقله ، وذكائه ، وخبرته ، وتجربته ، يطبق منهج الله عز وجل ، ويقطف ثماره ، هذا الإنسان ينتفع بهذا المنهج في الدنيا فقط :
﴿مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾
[سورة البقرة:102]
وهذا شأن الأذكياء ، أحياناً يلتقون مع المؤمنين ؛ في تصرفاتهم ، في اعتدالهم ، في توازنهم ، في صفات يرونها أكمل لهم ، لكن البواعث مختلفة ، المؤمن لما يطبق منهج الله في دنياه ، باعثه طاعة الله عز وجل ، باعثه عبادة الله عز وجل ، باعثه التقرب إلى الله عز وجل ، هذا يكسب الدنيا والآخرة معاً ، أما الذي يطبق منهج الله من أجل مصلحته ، فهذا يكسب الدنيا :
﴿مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾
[سورة البقرة:102]
من طبق منهج الله عز وجل قطف ثماره :
الآن : الأطباء إذا رأوا أن امرأة مصابة بمرض اسمه : انقلاب الرحم ، بماذا ينصحونها ؟ بحركات رياضية كالصلاة تماماً .
علماء الرياضة بالسويد ، أرادوا أن يضعوا تمرينات يقوم بها كل إنسان في كل عمر، وفي كل مكان ، وفي كل زمان ، تستوفي حركة العضلات كلها ، والمفاصل ، فصنعوا تدريبات أقرب إلى الصلاة من أن تكون تمرينات رياضية .
النبي -عليه الصلاة والسلام- عندما سنّ لنا هذه الصلاة ، كل المفاصل تتحرك في الصلاة ، فهذا منهج عظيم ، منهج كريم ، إلا أنه ليت الإنسان يطبقه عن إيمان بخالقه ، يكسب الدنيا والآخرة .
من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً .
فهذه الآية خرجت عن هذه القاعدة ، لتبين أن هذا المنهج موضوعي ، وأي إنسان لو كان ملحداً ، وطبق هذا المنهج ، يقطف ثماره .
أي إذا إنسان لا عن إيمان ، ولا عن أي اعتقاد بخالق الأكوان ، غض بصره عن غير زوجته ، من لوازم غض البصر أن يسعد بزوجته ؛ لو تحرى الصدق ، والأمانة ، ترتفع مكانته ، يعلو شأنه بين الناس ، لذلك مثلاً : الإنسان إذا أدى زكاة ماله ، لو أن أغنياء كل بلد أدوا زكاة مالهم ، هناك كتلة نقدية كبيرة جداً ، الرقم قد لا تصدقونه ، لو أن أغنياء المسلمين دفعوا زكاة أموالهم ، نحن أمام رقم فلكي ، رقم فلكي يحل كل مشكلات الفقراء ، إذاً هذا الفقير إذا أعطيته مالاً ، ماذا يصنع به ؟ سيشتري به الملابس ، والطعام ، والحاجات ، والأجهزة ، والأدوات ، عاد الخير على الذين دفعوا الزكاة ، هذا منهج ، أي إذا أدى الأغنياء زكاة أموالهم ، لم تكسد بضاعتهم .
والغربيون بذكائهم فقط ، ماذا يعملون ؟ يقدمون مساعدات للدول الفقيرة ، من أجل أن تشتري من بضاعتهم ، تتحرك مصانعهم ، وينشط اقتصادهم ، هذه المساعدات لا يقدمونها لوجه الله ، ولكن لوجه مصالحهم ، فلو تحرينا منهج الله عز وجل في كل الأمر والنهي ، لوجدنا أن هذا المنهج موضوعي ، بمعنى أن كل إنسان لو طبقه ، لقطف ثماره :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾
[سورة البقرة:168]
وبعضهم قال : ربنا عز وجل رحيم ، حتى بالكافر ، فإذا خسر الآخرة ، فلا أقل من أن يكسب الدنيا ، طبق منهج الله في الدنيا ، من أجل أن تستريح ، هؤلاء الذين خرجوا عن منهج الله ، يدفعون الثمن باهظاً ؛ إن في سعادتهم البيتية ، وإن في عملهم ، وإن في مستقبل حياتهم ، والمعاصي - كما ترون أيها الأخوة - تقصف عمر الإنسان ، وتؤدي به إلى المهالك ، والله عز وجل قال :
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾
[سورة البقرة:5]
على تفيد الاستعلاء ، الهدى على أنه قيد فيما يبدو ، يرفع المهتدي إلى أعلى عليين ، والفسق والفجور على ما يبدو من تفلت وحرية ، يدخل الفاسد في ضيق ، في قيد :
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
[سورة الزمر:22]
على تفيد العلو ، وفي تفيد دخول شيء بشيء .
هذه الآية التي شذت عن القاعدة ، بأن الله عز وجل يخاطب عامة الناس بأصول الدين ، بينما يخاطب الخاصة المؤمنين بفروع الدين ، هذه الآية خاطبت العامة بفروع الدين ، تنويهاً بهذه الحقيقة أن هذا منهج موضوعي ، لو طبقته لقطفت ثماره .
طرق للوصول إلى الله عز وجل :
هناك شيء أخير أنك إذا رأيت منهج الله يعطي كل هذه الثمار ، ربما عرفت الله من منهج الله عز وجل ، له ثلاث طرائق للوصول إليه ؛ خلقه يدل عليه . قال تعالى :
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
[سورة آل عمران:190]
الآية معروفة ، وأفعاله تدل عليه . قال :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
[سورة الأنعام:11]
هذا طريق ثان ، الطريق الثالث : كلامه ؛ لو أنك درست كلامه ، ومنهجه ، وتشريعه ، لرأيت أن هذا المنهج محكم و معجز.
الآن : ما من قانون يصدر أشهر قليلة إلا و يجرى تعديل عليه بعد شهر ثان ، تعديل ثان ، يصير حجم التعديلات أربعة أضعاف حجم القانون ، بعد ذلك يلغى القانون كله ، يوضع قانون جديد ، هذا شأن البشر ، إذاً هذا المنهج الإلهي المطبق من قرون عدة ، لم يظهر شيء يخالف أصوله .
الصين الشعبية أصدرت قانوناً أن كل أسرة ينبغي أن تكتفي بولد واحد ، ما الذي حصل ؟ أن كل أسرة تنجب بنتاً تخنقها ، إلى أن تنجب الذكر ، تسجله في الدوائر الرسمية ، الذي حصل الآن أن هناك عصابات تخطف البنات في سنّ الزواج ، لأن هناك قرى بأكملها ليس فيها ولا فتاة واحدة ، صار هناك خلل ، هذا تشريع البشر ، لذلك : هذا منهج موضوعي ، فالإنسان إذا كان يحب نفسه ، إذا كان عنده أنانية مفرطة ، إذا كان يحب ذاته ، عليه أن يطبق هذا المنهج .
أيّ تشريع خلاف منهج الله سوف يزول ولن يبقى :
أخواننا الكرام ؛ كلمة دقيقة : تصور بناء بني على علم هندسي رفيع ؛ نسب الإسمنت ، نسب الحديد ، ترتيب الحديد ، مكان الحديد ، أطوال الحديد ، سخانات الحديد كلها وفق الأصول ، هذا البناء بني ليبقى ، عوامل بقائه فيه ، عوامل الاستمرار فيه ، أما لو إنسان أنشأ بناء بلا مهندسين ، وضع نسب الإسمنت على مزاجه الشخصي ، وضع الحديد على مزاجه، وما كال بكيل المهندسين إطلاقاً ، هذا البناء فيه عوامل انهدامه ، هذا هو الباطل ، الباطل شيء لا بد من أن يقع :
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
[سورة الإسراء:81]
الحق هو المستمر ، فالمسلم له ميزة أنه مهما تطورت الأزمان ، ومهما جدت الأشياء الحديثة ، لن تهز عقيدته بدينه ، لأن هذا الدين حق من عند الحق ، والحق هو الباطل، الباطل زائل ؛ فأي مذهب ، أي تصور ، أي منهج ، أي تشريع خلاف منهج الله عز وجل ، هذا سوف يزول ، ولن يبقى ، آيل إلى السقوط .
والدليل ما نسمع ، وما نرى ممن حولنا أن كل المذاهب الوضعية ، ثبت فشلها الذريع ، وثبت أنها لا تسعد الإنسان ، ولا ترقى به ، ولا تسمو به ، ولا تحل مشكلاته ، ولم يبق في الساحة إلا الدين ، ولكن الذي أرجوه من الله عز وجل أن نفهم الدين كما أراد الله ، كما أراده تماماً ، أن هذه الصحوة الإسلامية لا ينبغي أن تفرغ في فهم خاطىء للدين ، أو في فهم منحرف، أو في تطرف ، أو استغلال ، ينبغي أن تُرشَّد هذه الصحوة إلى الفهم الصحيح ، والتصور الصحيح في هذا الدين .
قراءات قرآنية - الدرس : 06 - من سورة آل عمران - خطوات الشيطان .
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
مخاطبة الناس بأصول الدين و مخاطبة المؤمنين بفروع الدين :
ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم كما قلت قبل يومين : يخاطب الناس بأصول الدين ، ويخاطب المؤمنين بفروع الدين ، فإذا قال الله عز وجل :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾
[سورة البقرة:21]
أما إذا قال :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾
[سورة البقرة:183]
وفي هذا تعليم لنا ؛ أنك إذا خاطبت منكراً للدين ، عليك أن تخاطبه بالأصول لا بالفروع ، وهناك مغالطة دقيقة جداً ، تقع بين مسلم يتحاور مع غير مسلم ، يقول له مثلاً : أثبت لي أنه لا وجود الجن أو الملائكة ؟ ليس هناك دليل على وجود الجن والملائكة ، إلا الدليل النقلي الذي جاء في القرآن الكريم ، وهو ينكر أصل الدين ، فلذلك : ربنا سبحانه وتعالى خاطب الناس بأصول الدين ، وخاطب المؤمنين بفروع الدين ، هذه حقيقة ، وفي الوقت نفسه تعليم لنا ، ولكن حينما قال الله عز وجل :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾
[سورة البقرة:168]
معنى ذلك أن هذا المنهج الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، أو جاء في القرآن الكريم ، هو العلاقة بين تطبيقه ونتائجه و هذه العلاقة علاقة علمية ، بمعنى أن أي إنسان لو أنكر أصل الدين ، لو طبق في حياته منهج الله عز وجل ، لقطف الثمار في الدنيا ، وهذا الذي نشاهده الآن .
التمسك بمنهج الوسطية :
العالم قبل عقد من الزمن ، كان منقسماً إلى فريقين ؛ فريق آمن بالفرد على حساب المجموع ، وفريق آمن بالمجموع على حساب الفرد ، وكلا الفريقين تفرق ، ثم إن كلا الفريقين عاد إلى الدين ، لا عن إيمان به ، ولا عن اعتقاد بالذي أنزله ، إلا أن معطيات العلم وحدها أكدت أن خير منهج للبشر هذا المنهج المتوسط في كل شيء ، ليس هناك إفراط ولا تفريط ، ليس هناك مبالغة ولا تسييب ، هذا المنهج الوسطي . قال تعالى :
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾
[سورة البقرة:143]
مثلاً النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بالختان ، الآن أكثر الجهات العلمية في أوروبا ، وأمريكا ، تختن المواليد ، السبب لأن نسب سرطان عنق الرحم في البلاد الإسلامية يكاد يكون معدوماً ، أو قليلاً جداً ، سرطان الأعضاء المذكرة ، وعنق الرحم في العالم الإسلامي ، يكاد يكون معدوماً .
الاتحاد السوفييتي قبل أن ينحل إلى دول عديدة ، أصدر قانوناً بتحريم الخمر ، لأنه آمن بالله ؟ لا والله ، لكن لأنه وجد أن هذا الشراب يضعف القدرة الإنتاجية في المجتمع ، ويسبب جرائم لا نهاية لها ، فأصدر قانوناً في تحريم الخمر قبل سنوات تقريباً ، حتى أن أي احتفال في سفارة تابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً لم تقدم الخمر في احتفالها الرسمي ، لا لأنهم آمنوا بالله ، بل لأن العلاقة بين الأمر ونتيجته علاقة علمية ، أي كل أمر فيه بذور نتائجه ، وكل نهي فيه بذور مخاطره ، فلذلك هذا المنهج لو أن إنساناً عادياً ، ليس مؤمناً بالله عز وجل ، ولا باليوم الآخر ، طبقه ، لسعد في دنياه وأخراه .
أُرسلت لجنة من الأمم المتحدة إلى العالم الإسلامي ، منطلقين من أن المرأة المسلمة مظلومة ، ومقهورة ، ومضطهدة ، فأرادوا أن يستطلعوا ، خمس نساء ، لهم مشرفة ، وأربع نساء معها لجنة طافت العالم الإسلامي لفترة طويلة ، من أجل أن تقف على حقيقة وضع المرأة المسلمة ، النتيجة أن هذا الوفد المؤلف من خمس نساء كلهن أسلمن بالضبط .
الإحصاءات الدقيقة الآن أن العالم الإسلامي ، أو الجاليات المسلمة في أوروبا ، وأمريكا ، أقل نسب الجرائم فيها ، تتمتع بأعلى دخول ، واستقرار أسري ، وأقل انحراف ، الدول الإسلامية تعد الحزام الأخضر لمرض الإيدز ، الحزام الأخضر ، المنطقة العازلة . أي :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾
[سورة البقرة:168]
العلاقة بين المنهج ونتائجه علاقة علميّة :
منهج الله عز وجل لو طبقه الملحد ، لو طبقه الكافر ، لو طبقه كافر بالله ، كافر باليوم الآخر ، لقطف ثماره ، السبب لأن العلاقة بين هذا المنهج ونتائجه علاقة علمية ، علاقة سبب بنتيجة .
كتاب شهير جداً ، اسمه : " الإنسان ذلك المجهول " قد لا تصدقون أن في ثنيات هذا الكتاب ، كلمة تقول :
(( إن خير نظام للبشرية أن يقصر الرجل طرفه على زوجة واحدة))
أي غض البصر الذي ورد في كتاب الله ، لماذا الإنسان يشعر بالسعادة في بيته ؟ لأنه ليس في عالمه إلا زوجته ، ليس له حق أن ينظر لغيرها ، إلا المحارم طبعاً .
مدير السجون بأمريكا ، حينما تقاعد من عمله ، كتب وصية لرؤسائه ، يقول : دعوا السجون للمسلمين ، إنهم أقدر على إدارتها ، وعلى تربية المساجين فيها ، وهو كسلوكي متعصب ، قال : دعوا السجون للمسلمين .
العالم الآن مما يلفت النظر رأى أن الحل في هذا الدين ، الخلاص في هذا الدين ، ما من نظام وضعي إلا ثبت إخفاقه المريع والشديد ، لذلك : في آية واحدة يبين الله عز وجل أن هذا المنهج ليس المقصود الحلال الطيب فقط ، أراد الجزء ، وعنى بالكل ، هذا شيء من المجاز العقلي . مثلاً :
﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ﴾
[سورة البقرة:19]
الآذان لا تتسع إلا لإصبع واحدة ، هنا أراد الكل ، لفظ الكل ، وأراد الجزء .
أحياناً : يقول الأول للثاني : أريد نقطة ماء بالله عليك ، هل يعطيه قطارة ويقول له: خذ نقطة ماء ، يأتيه بكأس من الماء ، هو ذكر الجزء ، وأراد الكل ، هذا مجاز عقلي ، فلذلك : الله عز وجل ذكر الحلال الطيب ، وأراد كل منهج الله عز وجل ، أي إنسان ، ولو كان كافراً بالله عز وجل ، لو طبق قواعد الإسلام ، لقطف ثمارها ، لكن الفرق بين إنسان بعقله ، وذكائه ، وخبرته ، وتجربته ، يطبق منهج الله عز وجل ، ويقطف ثماره ، هذا الإنسان ينتفع بهذا المنهج في الدنيا فقط :
﴿مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾
[سورة البقرة:102]
وهذا شأن الأذكياء ، أحياناً يلتقون مع المؤمنين ؛ في تصرفاتهم ، في اعتدالهم ، في توازنهم ، في صفات يرونها أكمل لهم ، لكن البواعث مختلفة ، المؤمن لما يطبق منهج الله في دنياه ، باعثه طاعة الله عز وجل ، باعثه عبادة الله عز وجل ، باعثه التقرب إلى الله عز وجل ، هذا يكسب الدنيا والآخرة معاً ، أما الذي يطبق منهج الله من أجل مصلحته ، فهذا يكسب الدنيا :
﴿مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾
[سورة البقرة:102]
من طبق منهج الله عز وجل قطف ثماره :
الآن : الأطباء إذا رأوا أن امرأة مصابة بمرض اسمه : انقلاب الرحم ، بماذا ينصحونها ؟ بحركات رياضية كالصلاة تماماً .
علماء الرياضة بالسويد ، أرادوا أن يضعوا تمرينات يقوم بها كل إنسان في كل عمر، وفي كل مكان ، وفي كل زمان ، تستوفي حركة العضلات كلها ، والمفاصل ، فصنعوا تدريبات أقرب إلى الصلاة من أن تكون تمرينات رياضية .
النبي -عليه الصلاة والسلام- عندما سنّ لنا هذه الصلاة ، كل المفاصل تتحرك في الصلاة ، فهذا منهج عظيم ، منهج كريم ، إلا أنه ليت الإنسان يطبقه عن إيمان بخالقه ، يكسب الدنيا والآخرة .
من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً .
فهذه الآية خرجت عن هذه القاعدة ، لتبين أن هذا المنهج موضوعي ، وأي إنسان لو كان ملحداً ، وطبق هذا المنهج ، يقطف ثماره .
أي إذا إنسان لا عن إيمان ، ولا عن أي اعتقاد بخالق الأكوان ، غض بصره عن غير زوجته ، من لوازم غض البصر أن يسعد بزوجته ؛ لو تحرى الصدق ، والأمانة ، ترتفع مكانته ، يعلو شأنه بين الناس ، لذلك مثلاً : الإنسان إذا أدى زكاة ماله ، لو أن أغنياء كل بلد أدوا زكاة مالهم ، هناك كتلة نقدية كبيرة جداً ، الرقم قد لا تصدقونه ، لو أن أغنياء المسلمين دفعوا زكاة أموالهم ، نحن أمام رقم فلكي ، رقم فلكي يحل كل مشكلات الفقراء ، إذاً هذا الفقير إذا أعطيته مالاً ، ماذا يصنع به ؟ سيشتري به الملابس ، والطعام ، والحاجات ، والأجهزة ، والأدوات ، عاد الخير على الذين دفعوا الزكاة ، هذا منهج ، أي إذا أدى الأغنياء زكاة أموالهم ، لم تكسد بضاعتهم .
والغربيون بذكائهم فقط ، ماذا يعملون ؟ يقدمون مساعدات للدول الفقيرة ، من أجل أن تشتري من بضاعتهم ، تتحرك مصانعهم ، وينشط اقتصادهم ، هذه المساعدات لا يقدمونها لوجه الله ، ولكن لوجه مصالحهم ، فلو تحرينا منهج الله عز وجل في كل الأمر والنهي ، لوجدنا أن هذا المنهج موضوعي ، بمعنى أن كل إنسان لو طبقه ، لقطف ثماره :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾
[سورة البقرة:168]
وبعضهم قال : ربنا عز وجل رحيم ، حتى بالكافر ، فإذا خسر الآخرة ، فلا أقل من أن يكسب الدنيا ، طبق منهج الله في الدنيا ، من أجل أن تستريح ، هؤلاء الذين خرجوا عن منهج الله ، يدفعون الثمن باهظاً ؛ إن في سعادتهم البيتية ، وإن في عملهم ، وإن في مستقبل حياتهم ، والمعاصي - كما ترون أيها الأخوة - تقصف عمر الإنسان ، وتؤدي به إلى المهالك ، والله عز وجل قال :
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾
[سورة البقرة:5]
على تفيد الاستعلاء ، الهدى على أنه قيد فيما يبدو ، يرفع المهتدي إلى أعلى عليين ، والفسق والفجور على ما يبدو من تفلت وحرية ، يدخل الفاسد في ضيق ، في قيد :
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
[سورة الزمر:22]
على تفيد العلو ، وفي تفيد دخول شيء بشيء .
هذه الآية التي شذت عن القاعدة ، بأن الله عز وجل يخاطب عامة الناس بأصول الدين ، بينما يخاطب الخاصة المؤمنين بفروع الدين ، هذه الآية خاطبت العامة بفروع الدين ، تنويهاً بهذه الحقيقة أن هذا منهج موضوعي ، لو طبقته لقطفت ثماره .
طرق للوصول إلى الله عز وجل :
هناك شيء أخير أنك إذا رأيت منهج الله يعطي كل هذه الثمار ، ربما عرفت الله من منهج الله عز وجل ، له ثلاث طرائق للوصول إليه ؛ خلقه يدل عليه . قال تعالى :
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
[سورة آل عمران:190]
الآية معروفة ، وأفعاله تدل عليه . قال :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
[سورة الأنعام:11]
هذا طريق ثان ، الطريق الثالث : كلامه ؛ لو أنك درست كلامه ، ومنهجه ، وتشريعه ، لرأيت أن هذا المنهج محكم و معجز.
الآن : ما من قانون يصدر أشهر قليلة إلا و يجرى تعديل عليه بعد شهر ثان ، تعديل ثان ، يصير حجم التعديلات أربعة أضعاف حجم القانون ، بعد ذلك يلغى القانون كله ، يوضع قانون جديد ، هذا شأن البشر ، إذاً هذا المنهج الإلهي المطبق من قرون عدة ، لم يظهر شيء يخالف أصوله .
الصين الشعبية أصدرت قانوناً أن كل أسرة ينبغي أن تكتفي بولد واحد ، ما الذي حصل ؟ أن كل أسرة تنجب بنتاً تخنقها ، إلى أن تنجب الذكر ، تسجله في الدوائر الرسمية ، الذي حصل الآن أن هناك عصابات تخطف البنات في سنّ الزواج ، لأن هناك قرى بأكملها ليس فيها ولا فتاة واحدة ، صار هناك خلل ، هذا تشريع البشر ، لذلك : هذا منهج موضوعي ، فالإنسان إذا كان يحب نفسه ، إذا كان عنده أنانية مفرطة ، إذا كان يحب ذاته ، عليه أن يطبق هذا المنهج .
أيّ تشريع خلاف منهج الله سوف يزول ولن يبقى :
أخواننا الكرام ؛ كلمة دقيقة : تصور بناء بني على علم هندسي رفيع ؛ نسب الإسمنت ، نسب الحديد ، ترتيب الحديد ، مكان الحديد ، أطوال الحديد ، سخانات الحديد كلها وفق الأصول ، هذا البناء بني ليبقى ، عوامل بقائه فيه ، عوامل الاستمرار فيه ، أما لو إنسان أنشأ بناء بلا مهندسين ، وضع نسب الإسمنت على مزاجه الشخصي ، وضع الحديد على مزاجه، وما كال بكيل المهندسين إطلاقاً ، هذا البناء فيه عوامل انهدامه ، هذا هو الباطل ، الباطل شيء لا بد من أن يقع :
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
[سورة الإسراء:81]
الحق هو المستمر ، فالمسلم له ميزة أنه مهما تطورت الأزمان ، ومهما جدت الأشياء الحديثة ، لن تهز عقيدته بدينه ، لأن هذا الدين حق من عند الحق ، والحق هو الباطل، الباطل زائل ؛ فأي مذهب ، أي تصور ، أي منهج ، أي تشريع خلاف منهج الله عز وجل ، هذا سوف يزول ، ولن يبقى ، آيل إلى السقوط .
والدليل ما نسمع ، وما نرى ممن حولنا أن كل المذاهب الوضعية ، ثبت فشلها الذريع ، وثبت أنها لا تسعد الإنسان ، ولا ترقى به ، ولا تسمو به ، ولا تحل مشكلاته ، ولم يبق في الساحة إلا الدين ، ولكن الذي أرجوه من الله عز وجل أن نفهم الدين كما أراد الله ، كما أراده تماماً ، أن هذه الصحوة الإسلامية لا ينبغي أن تفرغ في فهم خاطىء للدين ، أو في فهم منحرف، أو في تطرف ، أو استغلال ، ينبغي أن تُرشَّد هذه الصحوة إلى الفهم الصحيح ، والتصور الصحيح في هذا الدين .