بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
قراءات قرآنية - الدرس : 24 - من سورة الإسراء - صفات الإنسان.
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
حرص الإنسان على ما في يديه :
أيها الأخوة ؛ في سورة الإسراء آيات كثيرة يمكن أن نقف عندها طويلاً ، ولكن الوقت لا يسمح ، نكتفي بهاتين الآيتين . يقول الله عز وجل :
﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾
[سورة الإسراء :11]
الشر العاجل يقبل عليه كما لو كان خيراً . السبب :
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً﴾
[سورة الإسراء :11]
هناك سؤال : يا رب أنت خلقته كذلك ، هذا ضعف خلقي ، وليس ضعفاً كسبياً ، كقوله تعالى :
﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾
[سورة النساء :28]
وهذا الضعف خلقي وليس كسبياً ، وكقوله تعالى :
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾
[سورة المعارج :19]
والهلوع كما قال الله عز وجل :
﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً﴾
[سورة المعارج :20]
أي كثير الجزع ، إذا لاح له شبح مصيبة :
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾
[سورة المعارج :21]
حريص على ما في يديه ، يخاف أن يفقده ، ويخاف أية مصيبة ، وهو خوار شديد الخوف من المصائب .
ضعف الإنسان أكبر باعث له للصلح مع الله :
حسناً إنه خلق ضعيفاً ، وخلق هلوعاً ، وخلق عجولاً ، وهذا ضعف في خلقه ، لا علاقة له به إطلاقاً ، إلا أن الحكمة البالغة أن هذا الضعف ، وتلك العجلة ، وهذا الهلع ، هذه صفات ركبت في أصل فطرته وطبعه ، إلا أنها لصالحه ، لصالح إيمانه ، كما أن الآلة المعقدة الغالية الثمن فيها مقطع بالتيار الكهربائي ضعيف جداً ، فعلى أي ارتفاع بالتوتر ، يذوب هذا المقطع ، ويقطع التيار عن الآلة ، نقطة الضعف في هذه الآلة ليس ضعفاً حقيقياً ، بل هي لصالح الآلة ؛ فالإنسان خلق ضعيفاً ، لو أنه خلق قوياً ، وجاءته المصائب ، لا يلتجىء إلى الله، ولا يتوب إليه ، ولا يقف على بابه ، ولا ينطلق إلى طاعته ، ولا يرجو ما عنده ، لكنه خلق ضعيفاً ، فضعفه يسوقه إلى باب الله ، ضعفه يحمله على الاستعاذة بالله ، ضعفه يدفعه إلى التوبة ، ضعفه يدفعه إلى أن يلتجىء إلى الله ، إذاً : الضعف في الظاهر ضعف ، أما في الحقيقة فالضعف أكبر باعث لهذا الإنسان ، ليقبل على الله ، وليصطلح معه ، وليتقرب إليه ، فهذا ضعف خلقي ، ركبه الله في أصل طبعه وفطرته ، إلا أن هذا الضعف لصالحه ، لأن الله عز وجل أفعاله كلها حكيمة :
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾
[سورة الأعراف:180]
خلقه هلوعاً ، شديد الخوف ، فربنا عز وجل خلقه هلوعاً ، وعالجه عن طريق الأخطار .
أحياناً خطر على صحته يحمله على الصلاة ، خطر على أولاده يحمله على طاعة الله ، خطر على ماله يزكي ، فالذي يدفعه إلى طاعة الله ، في الأعم الأغلب هو الخوف الشديد من الأخطار المحدقة به ، إذاً : هذا الهلع لصالحه ، وهذا الحرص على ما في يديه ، ذكر فيه حب المال ، وما قيمة الصدقة لو أن الإنسان لا يحب المال ؟
لو أن النبي أمسك بقبضة من رمل ، أو بحص ، وأعطاها للفقير ، هل يرقى عند الله ؟ لا قيمة لها عنده ، أما الخمسمئات فلهم قيمة عنده ، فإذا دفعها لفقير محتاج ، وهذا المال محبب إليه فسيرقى .
إذاً : هذه النقاط الثلاث التي هي في ظاهرها ضعف خلقي مركب في فطرته ، هذا الضعف لصالح إيمانه ، أما أنه عجول فلو أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مهولاً ، لا عجولاً ، أي خلقه مفطوراً على حبّ الأشياء البعيدة لأقبل على الآخرة ، وترك الدنيا ، لا حباً بالله ، ولا طاعة له ، ولا عبودية له ، إنما من أجل شيء واحد انسجاماً مع فطرتهم ، إذاً : لا يرقون بها إلى الله عز وجل ؛ ضعفنا لمصلحتنا ، وهلعنا لمصلحتنا ، وعجلتنا لمصلحتنا ، والإنسان لا يرقى إلا إذا خالف طبعه .
أحياناً : إنسان آتاه الله قدرات عالية جداً ، تُعرض له مغريات كثيرة ، تعال معنا ، لكنكم لستم على حق ، يؤثر حياة وعده الله بها بعد الموت ، ويعيش عيشة خشنة جداً ، على مكاسب جاهزة أمامه ، بين يديه ، الآن يرقى ، لأنه خالف طبعه ، طبعه يحب العاجلة ، لكنه أعمل عقله فصدق ربه ، وانتظر ما سيعده الله به من نعيم مقيم .
الضعف والهلع والعجلة مركبة في طبع الإنسان ولكن لصالحه :
إذاً : ثلاث آيات حصراً تصف أن الإنسان ضعيف ، وهلوع ، وعجول ، وضعفه، وهلعه ، وعجلته ، لصالح إيمانه ، فشيء طبيعي جداً أن المؤمن يركل بقدمه آلاف المكاسب المادية ، الآنية ، السريعة ، العاجلة ، الجاهزة ، لأنها لا ترضي الله عز وجل ، وينتظر وعد الله في الجنة ، بإمكانه أن يكون من أغنى الأغنياء لو أراد العاجلة ، بإمكانه أن يكون في أعلى مكانة في الدنيا لو أراد العاجلة ، وهؤلاء الذين يريدون العاجلة ، انسجموا مع طبعهم ، ولم يعملوا عقولهم ، فضيعوا آخرتهم :
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾
[سورة الإنسان:27]
هذه إشارة احتقار ، بعد هذه العاجلة التي ترقص أمامهم آجلة ثقيلة :
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾
[سورة الإنسان:28]
﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾
[سورة القيامة:20]
﴿وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ﴾
[سورة القيامة:21]
آيات كثيرة جداً تبين أن الإنسان إذا عطل عقله ، طبعه يدعوه إلى أن يأخذ الشيء الذي أمامه ، الشيء العاجل .
الآن إنسان أحياناً قد تعرض له امرأة ، تبرز مفاتنها في الطريق ، الإنسان بحسب طبعه يحب العاجلة ، يمتع عينيه ، أما المؤمن فيحكم عقله ، ويغض بصر ، هو ينتظر هذه الحلاوة التي وعدها الله للمؤمن إذا غض بصره عن محارم الله .
أبسط عملية امرأة في الطريق ، وأنت في الطريق ، غض البصر ، معنى ذلك أنك طمعت بما وعدك الله به من الحور العين في الجنة ، وزهدت بهذه التي إذا نظرت إليها شعرت بالحجاب بينك وبين الله .
صحابي جليل طلبت منه زوجته مطالب كثيرة ، قال لها : اعلمي يا فلانة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض ، لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر ، فلأن أضحي بك من أجلهن ، أهون من أضحي بهن من أجلك .
﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾
[سورة القيامة:20]
﴿وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ﴾
[سورة القيامة:21]
بشكل مبسط جداً أحياناً إنسان يركب مركبة ، على اليمين يوجد شمس ، أما المركبة بعد دقيقة ستعمل دورة كاملة حول ساحة فسيتمتع بالظل إلى آخر الخط ، إذا الإنسان فكر أن يجلس بالشمس ، بعد حين سيتمتع بالظل ، إذا الإنسان عطل فكره ، يجلس بالظل لدقيقة أو دقيقتين ، ثم يتحمل لسع الشمس ثلث ساعة تقريباً ، فالقضية قضية إعمال عقل ، أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
إذاً : هذه النقاط الثلاث ؛ الضعف ، والهلع ، والعجلة ، هذه مركبة في طبع الإنسان ، ضعف خلقي ، وليس ضعفاً كسبياً ، ولكن لصالح الإنسان .
مراتب الدنيا لا قيمة لها إطلاقاً :
النقطة الثانية : ربنا عز وجل في هذه السورة يقول :
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾
[سورة الإسراء:21]
تقيس - طبعاً مع احترامنا البالغ لكل مؤمن ، ولكل إنسان - بائعاً متجولاً مع تاجر كبير مستورد ، حجم مبيعاته ألف مليون مثلاً ، لا يستوون ، تقيس جندياً غرّاً مع رئيس أركان ، تقيس ممرض مع جراح قلب ، تقيس معلم بقرية مع أستاذ جامعة ، تقيس إنساناً يتمتع بالصحة التامة مع إنسان فيه خمسون علة ، تقيس إنساناً له دخل كبير ، يأكل ما يشتهي ، ويذهب إلى حيث يشاء ، ويرتدي أجمل الثياب ، ويسكن أفخر البيوت ، مع إنسان لا يكفيه راتبه ثلاثة أيام ، أي هذا الشيء واقع :
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾
[سورة الإسراء:21]
لكن الدقة البالغة أيها الأخوة ؛
﴿ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾
[سورة الإسراء:21]
العبرة أن مراتب الدنيا لا قيمة لها إطلاقاً لشيئين ؛ أولاً : لأنها مؤقتة ، الموت ينهي غنى الغني .
أي هل هناك قبر خمس نجوم ؟ لا ، كل القبور مثل بعض ؛ ينهي غنى الغني ، ينهي فقر الفقير ، ينهي قوة القوي ، ينهي ضعف الضعيف ، ينهي صحة الصحيح ، ينهي مرض المريض ، ينهي عزة العزيز ، ينهي ذلّ الذليل ، إذاً الموت ينهي كل شيء . إذاً : هذه المراتب لا قيمة لها ، لأنها مؤقتة .
النقطة الثانية : المرتبة في الدنيا لا تعني أنك قريب من الله أبداً، بما كان العكس :
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾
[سورة الأنعام:44]
ربما كان العكس .
((رُبَّ أَشْعَثَ -أغبر ذي طمرين- مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ))
[مسلم عن أبي هريرة]
النبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا أراد أن يصلي الليل ، لا تتسع غرفته لصلاته ونوم زوجته .
هل يوجد إنسان منا جميعاً إذا أحبّ أن يصلي قيام الليل ، يجب أن يوقظ زوجته لتزيح له من مكانها ليصلي ؟ هكذا كانت غرفة النبي ، لا تعني شيئاً ، أولاً مؤقتة ، ولا تعني شيئاً ، إن لم تعن عكس ما هي عليه .
كلما الإنسان ابتعد :
﴿كَفَرُوا وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[سورة المؤمنون:33]
من لوازم الكفر الترف ؛ فالترف ، والبذخ ، والتبذير ، والاستعلاء ، هذه تعني عكس الواقع .
مرتبة الآخرة أبدية متوافقة مع مكانة الإنسان عند الله :
حسناً ننتقل لمراتب الآخرة . قال تعالى :
﴿وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾
[سورة الإسراء:21]
مرتبة الآخرة أبدية إلى الأبد ، هنا الموت يحل كل مشكلة . سبحان من قهر عباده بالموت ، لكن مرتبة الآخرة إلى أبد الآبدين ، مرتبة الدنيا لا تعني شيئاً ، بينما مرتبة الآخرة تعني كل شيء ، مرتبة الآخرة متوافقة مع مكانتك عند الله ، الدليل :
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأنعام:132]
أبداً ، درجتك في الآخرة بحسب عملك الصالح :
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾
[سورة القمر:54]
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
[سورة القمر:55]
لذلك : من هو العاقل ؟ لا الذي يسعى إلى مرتبة في الدنيا ، لا والله .
ألم يقل ملك لوزيره : من الملك ؟ والملك كان جباراً ، خاف ، قال له : أنت الملك ، قال له : لا ، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا ، له بيت يؤويه ، وزوجة ترضيه ، ورزق يكفيه ، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا ، وإن عرفناه جهدنا في إذلاله .
فالذي لا يعرفنا ولا نعرفه هو الملك ، فإذا الإنسان في الدنيا سكن في بيت ، لا يهم؛ كبير أو صغير ، أرضي أو عال ، ملك أو أجرة ، لا يهم ، معه مفتاح بيت ، معه مأوى ، يلبس ثياباً تستر عورته ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ، وليشمر ، وليطلب الآخرة ، ابحث عن مرتبة في الآخرة ، ابحث عن مرتبة علية في الآخرة ، ابحث عن مقعد صدق عند الله عز وجل . انظر الآية ما أدقها :
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾
[سورة الإسراء:21]
توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :
لذلك المؤمن بعين نفسه صغير ، لكنه عند الله كبير ، والكافر عند نفسه كبير ، لكنه عند الله وعند الناس صغير؛ فابتغوا الرفعة عند الله .
وهذه الآية دقيقة جداً ، قال لك : فكر ، لذلك : الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء ، الحظ في الآخرة متعلق بعملك الصالح ، أما الحظ في الدنيا فقد لا يعني أنك طيب :
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
[ سورة الفجر 15-16]
﴿كَلَّا﴾
[سورة الفجر:17]
الردع جاء كلا ، ليس عطائي إكراماً ، ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء ، وحرماني دواء ، ليس عطائي إكراماً ، ولا حرماني منعاً ، لكن عطائي ابتلاء ، ومنعي دواء .
قراءات قرآنية - الدرس : 24 - من سورة الإسراء - صفات الإنسان.
محمد راتب النابلسي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
حرص الإنسان على ما في يديه :
أيها الأخوة ؛ في سورة الإسراء آيات كثيرة يمكن أن نقف عندها طويلاً ، ولكن الوقت لا يسمح ، نكتفي بهاتين الآيتين . يقول الله عز وجل :
﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾
[سورة الإسراء :11]
الشر العاجل يقبل عليه كما لو كان خيراً . السبب :
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً﴾
[سورة الإسراء :11]
هناك سؤال : يا رب أنت خلقته كذلك ، هذا ضعف خلقي ، وليس ضعفاً كسبياً ، كقوله تعالى :
﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾
[سورة النساء :28]
وهذا الضعف خلقي وليس كسبياً ، وكقوله تعالى :
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾
[سورة المعارج :19]
والهلوع كما قال الله عز وجل :
﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً﴾
[سورة المعارج :20]
أي كثير الجزع ، إذا لاح له شبح مصيبة :
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾
[سورة المعارج :21]
حريص على ما في يديه ، يخاف أن يفقده ، ويخاف أية مصيبة ، وهو خوار شديد الخوف من المصائب .
ضعف الإنسان أكبر باعث له للصلح مع الله :
حسناً إنه خلق ضعيفاً ، وخلق هلوعاً ، وخلق عجولاً ، وهذا ضعف في خلقه ، لا علاقة له به إطلاقاً ، إلا أن الحكمة البالغة أن هذا الضعف ، وتلك العجلة ، وهذا الهلع ، هذه صفات ركبت في أصل فطرته وطبعه ، إلا أنها لصالحه ، لصالح إيمانه ، كما أن الآلة المعقدة الغالية الثمن فيها مقطع بالتيار الكهربائي ضعيف جداً ، فعلى أي ارتفاع بالتوتر ، يذوب هذا المقطع ، ويقطع التيار عن الآلة ، نقطة الضعف في هذه الآلة ليس ضعفاً حقيقياً ، بل هي لصالح الآلة ؛ فالإنسان خلق ضعيفاً ، لو أنه خلق قوياً ، وجاءته المصائب ، لا يلتجىء إلى الله، ولا يتوب إليه ، ولا يقف على بابه ، ولا ينطلق إلى طاعته ، ولا يرجو ما عنده ، لكنه خلق ضعيفاً ، فضعفه يسوقه إلى باب الله ، ضعفه يحمله على الاستعاذة بالله ، ضعفه يدفعه إلى التوبة ، ضعفه يدفعه إلى أن يلتجىء إلى الله ، إذاً : الضعف في الظاهر ضعف ، أما في الحقيقة فالضعف أكبر باعث لهذا الإنسان ، ليقبل على الله ، وليصطلح معه ، وليتقرب إليه ، فهذا ضعف خلقي ، ركبه الله في أصل طبعه وفطرته ، إلا أن هذا الضعف لصالحه ، لأن الله عز وجل أفعاله كلها حكيمة :
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾
[سورة الأعراف:180]
خلقه هلوعاً ، شديد الخوف ، فربنا عز وجل خلقه هلوعاً ، وعالجه عن طريق الأخطار .
أحياناً خطر على صحته يحمله على الصلاة ، خطر على أولاده يحمله على طاعة الله ، خطر على ماله يزكي ، فالذي يدفعه إلى طاعة الله ، في الأعم الأغلب هو الخوف الشديد من الأخطار المحدقة به ، إذاً : هذا الهلع لصالحه ، وهذا الحرص على ما في يديه ، ذكر فيه حب المال ، وما قيمة الصدقة لو أن الإنسان لا يحب المال ؟
لو أن النبي أمسك بقبضة من رمل ، أو بحص ، وأعطاها للفقير ، هل يرقى عند الله ؟ لا قيمة لها عنده ، أما الخمسمئات فلهم قيمة عنده ، فإذا دفعها لفقير محتاج ، وهذا المال محبب إليه فسيرقى .
إذاً : هذه النقاط الثلاث التي هي في ظاهرها ضعف خلقي مركب في فطرته ، هذا الضعف لصالح إيمانه ، أما أنه عجول فلو أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مهولاً ، لا عجولاً ، أي خلقه مفطوراً على حبّ الأشياء البعيدة لأقبل على الآخرة ، وترك الدنيا ، لا حباً بالله ، ولا طاعة له ، ولا عبودية له ، إنما من أجل شيء واحد انسجاماً مع فطرتهم ، إذاً : لا يرقون بها إلى الله عز وجل ؛ ضعفنا لمصلحتنا ، وهلعنا لمصلحتنا ، وعجلتنا لمصلحتنا ، والإنسان لا يرقى إلا إذا خالف طبعه .
أحياناً : إنسان آتاه الله قدرات عالية جداً ، تُعرض له مغريات كثيرة ، تعال معنا ، لكنكم لستم على حق ، يؤثر حياة وعده الله بها بعد الموت ، ويعيش عيشة خشنة جداً ، على مكاسب جاهزة أمامه ، بين يديه ، الآن يرقى ، لأنه خالف طبعه ، طبعه يحب العاجلة ، لكنه أعمل عقله فصدق ربه ، وانتظر ما سيعده الله به من نعيم مقيم .
الضعف والهلع والعجلة مركبة في طبع الإنسان ولكن لصالحه :
إذاً : ثلاث آيات حصراً تصف أن الإنسان ضعيف ، وهلوع ، وعجول ، وضعفه، وهلعه ، وعجلته ، لصالح إيمانه ، فشيء طبيعي جداً أن المؤمن يركل بقدمه آلاف المكاسب المادية ، الآنية ، السريعة ، العاجلة ، الجاهزة ، لأنها لا ترضي الله عز وجل ، وينتظر وعد الله في الجنة ، بإمكانه أن يكون من أغنى الأغنياء لو أراد العاجلة ، بإمكانه أن يكون في أعلى مكانة في الدنيا لو أراد العاجلة ، وهؤلاء الذين يريدون العاجلة ، انسجموا مع طبعهم ، ولم يعملوا عقولهم ، فضيعوا آخرتهم :
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾
[سورة الإنسان:27]
هذه إشارة احتقار ، بعد هذه العاجلة التي ترقص أمامهم آجلة ثقيلة :
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾
[سورة الإنسان:28]
﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾
[سورة القيامة:20]
﴿وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ﴾
[سورة القيامة:21]
آيات كثيرة جداً تبين أن الإنسان إذا عطل عقله ، طبعه يدعوه إلى أن يأخذ الشيء الذي أمامه ، الشيء العاجل .
الآن إنسان أحياناً قد تعرض له امرأة ، تبرز مفاتنها في الطريق ، الإنسان بحسب طبعه يحب العاجلة ، يمتع عينيه ، أما المؤمن فيحكم عقله ، ويغض بصر ، هو ينتظر هذه الحلاوة التي وعدها الله للمؤمن إذا غض بصره عن محارم الله .
أبسط عملية امرأة في الطريق ، وأنت في الطريق ، غض البصر ، معنى ذلك أنك طمعت بما وعدك الله به من الحور العين في الجنة ، وزهدت بهذه التي إذا نظرت إليها شعرت بالحجاب بينك وبين الله .
صحابي جليل طلبت منه زوجته مطالب كثيرة ، قال لها : اعلمي يا فلانة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض ، لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر ، فلأن أضحي بك من أجلهن ، أهون من أضحي بهن من أجلك .
﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾
[سورة القيامة:20]
﴿وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ﴾
[سورة القيامة:21]
بشكل مبسط جداً أحياناً إنسان يركب مركبة ، على اليمين يوجد شمس ، أما المركبة بعد دقيقة ستعمل دورة كاملة حول ساحة فسيتمتع بالظل إلى آخر الخط ، إذا الإنسان فكر أن يجلس بالشمس ، بعد حين سيتمتع بالظل ، إذا الإنسان عطل فكره ، يجلس بالظل لدقيقة أو دقيقتين ، ثم يتحمل لسع الشمس ثلث ساعة تقريباً ، فالقضية قضية إعمال عقل ، أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
إذاً : هذه النقاط الثلاث ؛ الضعف ، والهلع ، والعجلة ، هذه مركبة في طبع الإنسان ، ضعف خلقي ، وليس ضعفاً كسبياً ، ولكن لصالح الإنسان .
مراتب الدنيا لا قيمة لها إطلاقاً :
النقطة الثانية : ربنا عز وجل في هذه السورة يقول :
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾
[سورة الإسراء:21]
تقيس - طبعاً مع احترامنا البالغ لكل مؤمن ، ولكل إنسان - بائعاً متجولاً مع تاجر كبير مستورد ، حجم مبيعاته ألف مليون مثلاً ، لا يستوون ، تقيس جندياً غرّاً مع رئيس أركان ، تقيس ممرض مع جراح قلب ، تقيس معلم بقرية مع أستاذ جامعة ، تقيس إنساناً يتمتع بالصحة التامة مع إنسان فيه خمسون علة ، تقيس إنساناً له دخل كبير ، يأكل ما يشتهي ، ويذهب إلى حيث يشاء ، ويرتدي أجمل الثياب ، ويسكن أفخر البيوت ، مع إنسان لا يكفيه راتبه ثلاثة أيام ، أي هذا الشيء واقع :
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾
[سورة الإسراء:21]
لكن الدقة البالغة أيها الأخوة ؛
﴿ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾
[سورة الإسراء:21]
العبرة أن مراتب الدنيا لا قيمة لها إطلاقاً لشيئين ؛ أولاً : لأنها مؤقتة ، الموت ينهي غنى الغني .
أي هل هناك قبر خمس نجوم ؟ لا ، كل القبور مثل بعض ؛ ينهي غنى الغني ، ينهي فقر الفقير ، ينهي قوة القوي ، ينهي ضعف الضعيف ، ينهي صحة الصحيح ، ينهي مرض المريض ، ينهي عزة العزيز ، ينهي ذلّ الذليل ، إذاً الموت ينهي كل شيء . إذاً : هذه المراتب لا قيمة لها ، لأنها مؤقتة .
النقطة الثانية : المرتبة في الدنيا لا تعني أنك قريب من الله أبداً، بما كان العكس :
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾
[سورة الأنعام:44]
ربما كان العكس .
((رُبَّ أَشْعَثَ -أغبر ذي طمرين- مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ))
[مسلم عن أبي هريرة]
النبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا أراد أن يصلي الليل ، لا تتسع غرفته لصلاته ونوم زوجته .
هل يوجد إنسان منا جميعاً إذا أحبّ أن يصلي قيام الليل ، يجب أن يوقظ زوجته لتزيح له من مكانها ليصلي ؟ هكذا كانت غرفة النبي ، لا تعني شيئاً ، أولاً مؤقتة ، ولا تعني شيئاً ، إن لم تعن عكس ما هي عليه .
كلما الإنسان ابتعد :
﴿كَفَرُوا وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[سورة المؤمنون:33]
من لوازم الكفر الترف ؛ فالترف ، والبذخ ، والتبذير ، والاستعلاء ، هذه تعني عكس الواقع .
مرتبة الآخرة أبدية متوافقة مع مكانة الإنسان عند الله :
حسناً ننتقل لمراتب الآخرة . قال تعالى :
﴿وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾
[سورة الإسراء:21]
مرتبة الآخرة أبدية إلى الأبد ، هنا الموت يحل كل مشكلة . سبحان من قهر عباده بالموت ، لكن مرتبة الآخرة إلى أبد الآبدين ، مرتبة الدنيا لا تعني شيئاً ، بينما مرتبة الآخرة تعني كل شيء ، مرتبة الآخرة متوافقة مع مكانتك عند الله ، الدليل :
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأنعام:132]
أبداً ، درجتك في الآخرة بحسب عملك الصالح :
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾
[سورة القمر:54]
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
[سورة القمر:55]
لذلك : من هو العاقل ؟ لا الذي يسعى إلى مرتبة في الدنيا ، لا والله .
ألم يقل ملك لوزيره : من الملك ؟ والملك كان جباراً ، خاف ، قال له : أنت الملك ، قال له : لا ، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا ، له بيت يؤويه ، وزوجة ترضيه ، ورزق يكفيه ، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا ، وإن عرفناه جهدنا في إذلاله .
فالذي لا يعرفنا ولا نعرفه هو الملك ، فإذا الإنسان في الدنيا سكن في بيت ، لا يهم؛ كبير أو صغير ، أرضي أو عال ، ملك أو أجرة ، لا يهم ، معه مفتاح بيت ، معه مأوى ، يلبس ثياباً تستر عورته ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ، وليشمر ، وليطلب الآخرة ، ابحث عن مرتبة في الآخرة ، ابحث عن مرتبة علية في الآخرة ، ابحث عن مقعد صدق عند الله عز وجل . انظر الآية ما أدقها :
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾
[سورة الإسراء:21]
توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :
لذلك المؤمن بعين نفسه صغير ، لكنه عند الله كبير ، والكافر عند نفسه كبير ، لكنه عند الله وعند الناس صغير؛ فابتغوا الرفعة عند الله .
وهذه الآية دقيقة جداً ، قال لك : فكر ، لذلك : الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء ، الحظ في الآخرة متعلق بعملك الصالح ، أما الحظ في الدنيا فقد لا يعني أنك طيب :
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
[ سورة الفجر 15-16]
﴿كَلَّا﴾
[سورة الفجر:17]
الردع جاء كلا ، ليس عطائي إكراماً ، ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء ، وحرماني دواء ، ليس عطائي إكراماً ، ولا حرماني منعاً ، لكن عطائي ابتلاء ، ومنعي دواء .