تستغل الجهاتُ التشغيلية، في البلدان التي تعاني من معدلاتٍ عالية من البطالة، الفائضَ في القوى البشرية العاملة، بشكلٍ ينتهك الحقوق الوظيفية والإنسانية للموظفين، وذلك تحت مُسمّيات مُلطّفة مثل "عقد العمل الجزئيّ"، أو "العقد المؤقّت".
تنتشر هذه الظاهرة في الضفّة الغربيّة، خاصّةً في القطاعات الخدميّة الخاصة وأحياناً في الجهات الحكومية، إذ يُوظّف كثيرون بعقد عملٍ جزئي أو موقّت. يجري ذلك في ظلّ غيابٍ رقابيّ ونقابيّ لحماية العاملين وحقوقهم، وأيضاً في ظلّ التفافٍ على القوانين والتشريعات من قبل الجهات التشغيلية سعياً لتحقيق مصالحها.
وعلى الرغم من عدم توفر إحصائيات أو أرقام دقيقة حولها، إلا أنّ معشر الموظفين أو الباحثين عن عمل، يعرفونها جيّداً ويعرفون مدى انتشارها وتأثيراتها عليهم. فما هي سياقات هذا الاستعباد وما آثاره على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي؟
بداية الرحلة
ما أن يُنهي الطالب الفلسطيني حياتَه الجامعيّة حتى يقف على مفترقٍ طرق: إمّا أو..! إمّا أن يُعلّق الشهادة التي لطالما طال انتظارها، ويتجه إلى ورشات البناء أو المهن التي لا علاقة لها بما تعلّمه، أو يبدأ في إعداد سيرته الذاتية ويدخل المنافسة في سوق العمل، على أمل أن يظفر بـ"وظيفة العمر". عند الذهاب نحو الخيار الثاني تبدأ رحلة المطحنة في سوقٍ لا يمكن وصفه إلا بالتالي: البقاءُ فيه استعباد، والخروجُ منه عذاب. وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بلغ عدد خريجي مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية عام 2019 وحده، أكثرَ من 42 ألف خريجٍ وخريجة، في حين يستوعب السوق الفلسطيني المحليّ سنوياً ما معدله 8 آلاف فرصة عمل من الخريجين، أي أن قرابة 80% من الخريجين لا يوجد لهم مكان في سوق العمل، وبالتالي تصبح الخيارات المتاحة أمامهم محدودة جداً. ووفقاً للبيانات ذاتها، يحتاج الخريّج من 10 إلى 25 شهراً للحصول على أول فرصة عملٍ له.
في ظلّ هذا الواقع المرير، فإنّ الخريج يقبلُ بأول فرصة عملٍ تلوح له، لا بل "يعَضُّ عليها بالنواجذ"، ويقبل بالحدّ الأدنى المتاح. وهنا تأتي الجهات التشغيلية لتستغل هذه الظروف والعدد الهائل من الخريجين فتضعَ شروط العمل أو طريقة العقد بشكلٍ ينتهك الحقوق الوظيفية، ومن ذلك اللجوء إلى عقود العمل المؤقتة أو الجزئية.
الميزة التي تحوّلت جحيماً
عقد العمل الجزئيّ هو أحد أنواع عقود العمل المنتشرة، والتي يعمل وفقها الموظف ساعات عملٍ أقل من ساعات عمل الموظف الذي يعمل بدوامٍ كامل. مثلاً، أن يعمل الموظف الجزئي 4 ساعات يومياً بدلاً من 8 ساعات، أو 3 أيام بدلاً من خمسة. أما عقد العمل المؤقّت فهو عقد عمل بدوام كامل ولكنه محدّد المدة، أي صالح لفترة زمنية معينة كستة شهور أو سنة، أو غير ذلك حسب شروط العقد.لا تُعتبر هذه العقود إشكاليةً لذاتها، وإنما لطبيعة توظيفها لتحقيق أقل قدرٍ ممكن من الحقوق الوظيفية وأكبر قدر ممكن من الاستفادة للمُشغّلين. في الاقتصاديات المستقرة مثلاً، خلقت هذه النوعية من العقود فرصاً للكثيرين، إذ سمحت لهم الجمعَ بين أكثر من وظيفةٍ واستكشافَ الآفاق الوظيفية أو متابعة دراستهم وأنشطةٍ أخرى دون التفرّغ بشكلٍ كاملٍ للعمل.
على الجهة المقابلة، في الضفّة مثلاً، تستغل الجهات المُشغّلة ثغرات في هذه العقود لتصبح بديلاً فعّالاً - بالنسبة لها - عن العقود الدائمة، وتوفّر لها امتيازاتٍ على حساب الموظفين. على سبيل المثال، لا تترتب على كثير من هذه العقود الجزئية والمؤقتة أية أعباءٍ ماليّة على الجهات المُشغّلة، مثل التأمينات الصحيّة وتعويضات التقاعد، أو أتعاب نهاية الخدمة، أو تكاليف المواصلات، بل وحتى الالتزام الشهري بدفع الراتب المستحق، إذ يؤجل في كثير منها دفع الرواتب إلى فترات قد تصل إلى السنة أو تزيد.
هذا عدا عن عدم الوضوح في طبيعة العقد، فأحياناً تؤجّل عمليةُ توقيعه مراراً، فهناك بعض الموظفين لا يحملون عقوداً أصلاً، وأحياناً لا يُجدّد بشكل دوريّ، وتتغير ساعات العمل حسب حاجة المُشغّل. يحوّل هذا الواقع الميزة إلى نقمة، لكن كثيرين يفضلون البقاء في قلب هذه النقمة، ربما من باب التمسك بالقليل رغبةً في الكثير.
شبح الضغط الاقتصادي يُلاحقك..
ينطوي العمل ضمن نظام العمل الجزئيّ أو العقود المؤقّتة على الحصول على رواتب غير مُنتظمة أو رواتب متدنيةٍ لا تشتمل على أي مزايا أو بدالات، مثل بدالات السكن والاتصالات وغيرها، مما يضعهم تحتَ ضغطٍ وقلقٍ متواصل، وسعي مستمر للبحث عن أي استقرار، والذي يبدو مع مرور الوقت أنّه صعب المنال. ومن هؤلاء "جيشٌ" من موظفي العمل الجزئيّ في الجامعات الفلسطينية، والذين يزيد عددهم في بعض الجامعات عن عدد الموظفين أصحاب العقود الدائمة، ويتقاضون مبالغ أقل بكثير من أقرانهم، تصل نسبتها إلى 40% في أحسن الأحوال من راتب الموظف صاحب العقد الدائم.
على سبيل المثال، لو درّس أستاذٌ مساعد، موظف وفق عقد جزئي، 12 ساعةً معتمدة، فإنّه يحصل مقابلها على 3456 ديناراً، تُدفع في بعض الأحيان نهايةَ الفصل أو قد تمتد لمدةٍ تزيد عن 13 شهراً في بعض الجامعات. في حين يحصل صاحب العقد الدائم مقابل القيام بنفس المهمة على 1450 ديناراً شهريّاً تُدفع نهاية كل شهرٍ بالإضافة إلى المزايا الأخرى. وفي حالاتٍ أخرى يعمل المحاضر لعدد ساعات أكثر من المتفق عليه ولكن يُدفع له مقابل عدد أقل من الساعات تحت حجج واهية.
قد تكون الأرقام متقاربةً عند النظر إليها بالمقارنة مع المدة الزمنية، لكن صاحب عقد العمل الجزئي لا يحصل على أي راتبٍ خلال العطل الصيفية، وعطلة ما بين الفصلين، أي لفترةٍ تمتد ما بين 3-4 شهور سنوياً. ومهما امتدت فترة عمله سواءً لسنة أو لعشر سنوات فإنه لا يحصل على أتعاب أو مكافأة نهاية خدمة على عكس ما يُمنح لزملائه. وهناك بعض المحاضرين من أمضوا أكثر من 10 سنوات ضمن هذا النظام متنقلين بين عدة جامعات، تائهين بالوعود من الإدارات المختلفة.
وحال المدارس والروضات شبيه، إذ تُعلن بعضها عن شواغر وظيفية بعقودٍ مؤقتة لمدة فصل دراسي واحد، فيتقدم لهذه الوظيفة العشرات، ويُوقّع عقدٌ مؤقت لمدة أربعة شهور أو ستة شهور (وأحيانا يتم الاتفاق بشكل شفوي)، ضمن امتيازات أقل بكثير من باقي المدرسين ودون التزامات مستقبلية على الجهة المُشغلة، مما يعني أن المُعلم قد يجد نفسه بلا عمل بعد مرور فصل دراسي واحد.
وكنتيجةٍ حتمية لهذه العقود وممارساتها، ستتعزّز هجرة العقول والكفاءات الفلسطينية إلى الخارج بحثاً عن فرصة هنا أو هناك! إذ تشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن قرابة 24% من الفلسطينيين يرغبون بالهجرة إلى الخارج، وأنّ العوامل الاقتصادية المحرك الأساسي لهذه الرغبة.
لا تمويل، لا زواج، لا تقدم وظيفي
يؤدّي عدمُ انتظام راتبٍ محدد لموظفي العمل الجزئي أو العقود المؤقتة، إلى حالةٍ من عدم الاستقرار المالي والاقتصادي، فهم غير قادرين على الحصول على أي تمويل من المؤسسات المصرفية، وغير قادرين على إصدار الشيكات بسبب عدم انتظام مواعيد صرف مستحقاتهم المالية، ناهيك عن عدم اليقين تجاه الفترة المستقبلية، إذ إن عملهم يتجدد حسب ظروف المؤسسة. في الجامعات مثلاً يتغير وضع التوظيف من فصلٍ إلى آخر، وفي الشركات يتغير حسب التغيرات الاقتصادية. وبدا ذلك واضحاً خلال تفشي وباء كورونا، إذ استُغني عن معظم أصحاب عقود العمل الجزئي، وتُركوا بدون رواتب مقارنةً بأقرانهم. ولِذَلك أعباؤه النفسيّة على الموظف، فالخريج الذي لا يعثر على وظيفةٍ مستقرة، أو الموظف بعقدٍ غير غير ثابت، سرعان ما يُوصف مجتمعياً بـ"الفاشل"، بل ويُضرب به المثل للتدليل على إدعاء "عدم جدوى التعليم"، مما يزيد الضغط النفسي عليه. أما اجتماعيّاً، فإن الأسر تميل إلى عدم تزويج بناتها لمن لا يملك وظيفة ثابتةً واستقراراً مالياً واضحاً، مما يعني تعزيز حالة العزوف عن الزواج في أوساط الشباب، أو الدفع نحو تأخير الإنجاب في صفوف المتزوجين منهم.
أمام ذلك الواقع، فإنّ موظفي العمل الجزئي والعقود المؤقتة يسعون جاهدين في التقدم والصعود علواً رغم كل التعجيز والمعيقات. لكن، مع كل اجتهادٍ يقومون به للثبوت على أرضٍ ولو كانت من طين، تظهر شخصيات كثيرة في بيئة العمل تنظر إليهم باعتبارهم تهديداً وجودياً، فتبدأ سلسلة من الإجراءات الداخلية لاستبعادهم وإقصائهم ووصف أعمالهم وإنجازاتهم "بالعبثية والاستعراضية"، وهو الأمر الذي يخلق بيئة عمل شرسة البقاء فيها للأكثر شراسة.
وقد يحتاج موظفو العمل الجزئي والعقود المؤقتة إلى الوقوف لحظةٍ والتفكر للوصول إلى لحظة الإدراك؛ هذه اللحظة التي يفهمون فيها أنهم كانوا في دوامةٍ من التلاعب والتسويف من مُشغّليهم، وأن الشواغر التي ملؤها لسنوات ما هي إلا شواغر لوظائف دائمة، وأن الإدارات المختلفة متفقة على إبقاء الوضع على ما هو عليه بغض النظر عن الإنجازات التي حققها هؤلاء الموظفون، أو حجم العطاء الذي بذلوه. وحتى عند توفر الإرادة والرغبة في تثبيت موظف أو شغل شاغر معين داخل المؤسسة فستكون الأولوية لمن يملك "الواسطة والمحسوبية"، وليس لمن عمل لسنوات طويلة على نظام العقود المؤقتة أو الجزئية!