قال ابن حجر في "فتح الباري" في تعريفه للصحابي: "وأصح ما وقفتُ عليه مِنْ ذلك، أنَّ الصحابي مَنْ لقي النبيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، ومات على الإسلام". وقال الحافظ السخاوى في "فتح المغيث" مؤيداً قول ابن حجر: "والعمل عليه عند المُحَدثين والأصوليين".. وصحابة النبي صلى الله عليه هم خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين، اصطفاهم الله لتلقي التنزيل، وصحبة النبي الكريم، فكانوا في جميع أمور حياتهم على الصراط المستقيم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب مُحمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد".. والصحابة رضوان الله عليهم اجتمع لهم تزكية الله تعالى وثناؤه عليهم، ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم لهم، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(التوبة:100). قال ابن كثير: "أخبر الله العظيم أنه قدْ رضي عنِ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل مَنْ أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم". وقال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(الفتح:29). قال السعدي: "يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال".
وعن عمران بن حُصَيْن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) رواه الترمذي. قال ابن هبيرة: "في هذا الحديث دليل على أن خير الناس الذين صحبوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ورأوه، ثم التابعون لهم بإحسان".
وقال الإمام أحمد بن حنبل في "شرح أصول السُنة" بعد أن ذَكَرَ فَضْل أهل بدر: "ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بُعِث فيهم، كل مَنْ صَحِبه سَنة، أو شهراً، أو يوماً، أو ساعة، أو رآه، فهو مِنْ أصحابه له مِنَ الصُحْبة على قدْر ما صَحِبه وكانت سابقته معه، وسمع منه، ونظر إليه". وقال الطحاوي في "عقيدة أهل السنة": "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ مِنْ أحدٍ منهم، ونبغض مَنْ يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان". وقال ابنُ الصَّلاح في "مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث": "للصَّحابةِ بأسْرِهم خَصيصة، وهي أنَّه لا يُسألُ عن عدالةِ أحَدٍ منهم، بل ذلك أمـرٌ مَفروغٌ منه، لكونِهم على الإطلاقِ مُعَدَّلين بنصوصِ الكتاب والسُّنَّة، وإجماعِ مَنْ يُعتَدُّ به في الإجماع من الأُمَّة.. ثم إنَّ الأُمَّةَ مجمِعةٌ على تعديلِ جميعِ الصَّحابة، ومَنْ لابَسَ الفِتَنَ منهم فكذلك، بإجماعِ العُلَماء الذين يُعتَدُّ بهم في الإجماع، إحسانًا للظَّنِّ بهم، نظرًا إلى ما تمهَّد لهم من المآثِر، وكأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أتاح الإجماعَ على ذلك، لكونِهم نَقَلةَ الشَّريعة". وقال ابنُ كثير في "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث": "الصَّحابةُ كُلُّهم عدولٌ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعة، لِما أثنى اللهُ عليهم في كِتابه العزيز، وبما نطَقَت به السُّنَّةُ النبويَّة في المدحِ لهم في جميعِ أخلاقِهم وأفعالِهم، وما بَذَلوه من الأموال والأرواح بين يَدَيْ رَسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبةً فيما عند الله من الثَّوابِ الجزيلِ، والجزاء الجميل"..
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم نهيا شديدا عنْ سَبِّ أي أحَدٍ مِنَ الصحابة رضوان الله عليهم، وأخبر أنه لو أنفق أَحَدُ الناس مثل جبل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أحد الصحابة بملأ كفيه طعامًا ولا نصف ذلك. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَسُبُّوا أصْحابِي، لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فَوالذي نَفْسِي بيَدِهِ لو أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهبًا، ما أدْرَك مُدَّ أحَدِهِم (ما يَمْلأُ الكفَّينِ)، ولا نَصِيفَه (نصف المُد)) رواه مسلم.
قال ابن قدامة في "لمعة الاعتقاد": "ومِنَ السُنَّة تولي (موالاة) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم وذِكْر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم. واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}(الحشر:10)، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(الفتح:29)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهبا، ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه)". وقال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "اعلم أنَّ سَبَّ الصحابيّ حرام وهو مِنْ أكبر الفواحش". وقال البيضاوي في "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة": "(النصيف): النصف، أي: نصف مد، وقيل: هو مكيال دون المد، والمعنى: إنه لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضيلة والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصفه، لما يقارنه من مزيد الإخلاص، وصدق النية، وكمال النفس".
وقال القاضي عياض في "إِكمَال المُعْلِمِ بفَوَائِد مسْلم": "يُقال: نِصْف، ونُصْف، ونَصَف، ونصيف، ومعناه: نصيفه، أي: نِصْف مدة المذكور في الصدقة، أي: أجرهم هم مضاعف لمكانهم مِنَ الصُحْبَة، حتى لا يوازى إنفاق مثل أُحُدٍ ذهباً صدقة اْحدهم بنصف مُدّ، وما بين هذا التقدير لا يحصى. وهذا يقتضي ما قدمناه مِنْ قول جمهور الأمة مِنْ تفضيلهم على مَنْ سواهم بتضعيف أجورهم، ولأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر وبدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلة ذات اليد.. ولأن إنفاقهم كان في نُصْرة ذات النبي عليه الصلاة والسلام وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها، وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً}(الحديد:10)، هذا فرق ما فيهم أنفسهم مِنَ الفضل وبينهم مِنَ البَوْن (الفَرْق)، فكيف لمن يأتي بعدهم؟! فإن فضيلة الصُحبة واللقاء ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا يُنال درجتها شيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}(الحديد:21)".
وقال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "في هذا الحديث ما يدل على تشديد التحريم لنيل الصحابة بسب أو قَذَع (شتم) أو أذى، ولقد أتى في هذا النطق ما يخبر أن درجاتهم لا تبلغ تقليل، وأن أحدهم لا يقال له قليل، حتى إن أحدنا لو أنفق مثل الأرض ذهبا لما بلغ من جنس الإنفاق ما يكون مقداره مُدَاً واحدا مِن الصحابة أنفقه أحدهم ولا نصف ذلك المُدّ، وهذا إنما ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا في النفقات فيقاس عليه: الصلوات، والصيام، والحج، والجهاد، وسائر العبادات، فإنها في معناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم) بكاف الخطاب للحاضر المواجه، فإنه خطاب في هذه الصورة لأبي هريرة، فينصرف التحذير منه صلى الله عليه وسلم لسائر الصحابة ممن رآه صلى الله عليه وسلم مِنْ أنْ يسب أفاضل الصحابة الذي تخصصوا بصحابته وكثرة ملازمته، والهجرة معه، والقِدم في الإسلام، هذا يكون أشد في النهي عن ذِكْر الصحابة إلا بالخير لمن جاء بعدهم، لأنه إذا كان مَنْ شمله اسم الصحابة ولحقته بركتها وحظي بهذا الاسم الكريم لا يبلغ عمله لو أنفق مثل أُحُدٍ مُدَّ أحَدِ القدماء مِنَ الصحابة والفضلاء ولا نصف المُد، فكيف لمن جاء بعدهم!".
وقال ابن حجر في "فتح الباري": "فنَهْي بعض مَنْ أدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم وخاطبه بذلك عن سب مَنْ سبقه، يقتضي زجْر مَنْ لم يدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يخاطبه عن سب من سبقه مِنْ باب الأوْلى". وقال النووي في "شرح صحيح مسلم": "واعلم أن سَبَّ الصحابة رضي الله عنهم حرام مِن فواحش المحرمات سواء مَنْ لابَس الفتن منهم وغيره، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون".
لقد كثرت الأحاديث النبوية وأقوال علماء أهل السُنة في فضل الصحابة، وفي الوعيد الشديد فيمن يؤذي أو يسب أو ينتقص أحداً منهم ـ رضوان الله عليهم ـ. ومِن ثم فإنه مما ينبغي الحذر منه كل الحذر، الوقوع في سَبِّ الصحابة، أو الانتقاص منهم، أو ذمِّهِم والقدْح فيهم، وذلك لأن القدْح في الصحابة قدْح في الإسلام نفسه، لأن الإسلام لم يصل إلى مَنْ بعدهم وإلينا إلا بواسطتهم، قال أبو زُرْعة: "وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسُنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يَجْرَحوا شهودنا ليُبْطِلوا الكتاب والسُنة، والجرح بهم أوْلى وهم زنادقة". وقال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": "مِن المعلوم الذي لا يُشك فيه: أن الله تعالى اختار أصحاب نبيه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة دينه، فجميع ما نحن فيه مِنَ العلوم والأعمال، والفضائل والأحوال، والمتملكات والأموال، والعز والسلطان، والدين والإيمان، وغير ذلك مِنَ النعم التي لا يحصيها لسان، ولا يتسع لتقديرها زمان إنما كان بسببهم. ولمَّا كان ذلك، وجب علينا الاعتراف بحقوقهم والشكر لهم على عظيم أياديهم، قياماً بما أوجبه الله تعالى مِنْ شُكر المُنْعِم، واجتناباً لما حرمه مِنْ كفران حقه، هذا مع ما تحققناه مِنْ ثناء الله تعالى عليهم، وتشريفه لهم، ورضاه عنهم.. وعلى هذا فمَنْ تعرض لِسَبِّهم، وجَحْد عظيم حقهم، فقد انسلخ مِنَ الإيمان، وقابل الشكر بالكفران". وقال الشيخ ابن عثيمين: "وفي الحقيقة إنَّ سبَّ الصحابة ليس جَرْحًا في الصحابة رضي الله عنهم فقط، بل هو قَدْح في الصحابة، وفي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي شريعة الله"..