لماذا تدمّر إسرائيل في حربها الوحشية على قطاع غزّة أماكن لا تحتاج عسكرياً إلى تدميرها، وبما يدفع سكّانها إلى الرحيل منها ليتحوّلوا نازحين في أماكن أخرى، وهذا ما تكرّر مرّات عدّة مع آلاف العائلات، وهو ما يعني تجريفها سكّانياً المرّة بعد الأخرى؟ لماذا تُمارس إسرائيل فائضاً من العنف والتدمير لا تحتاج إليهما من أجل إعلان انتصارها على حركة حماس ذات الإمكانات العسكرية المُتواضعة، التي لا تُقارَن بإسرائيل المُسلّحة بأحدث الأسلحة، التي لا تفتقر حتّى إلى السلاح النووي؟ أيّ هدفٍ تسعى إسرائيل إلى تحقيقه في الأماكن المُدمّرة والمُجرّفة من السكّان؟ لماذا ترغب في إعلان نصرها على قطاع غزّة باعتباره معادياً، بعد تدميره وتحطيمه تماماً؟ هل هذا مُجرّد ردّة فعل سياسي وعسكري عنيف، وغبي واعتباطي، وفائضٍ عن الحاجة، ردّاً على فشلها الذريع في اختبار 7 أكتوبر (2023)، وانهيار قوّاتها العسكرية واستخباراتها في غلاف غزّة أمام عشرات المقاتلين من حركة حماس، المُسلّحين بسلاح فردي، أم أنّه تعبير عن استراتيجية إسرائيلية إلغائية للفلسطينيين من اليمين واليمين المُتطرّف، وهي استراتيجية مُضمَرة تحت الأهداف العسكرية المُعلنة، غير القابلة للتنفيذ؟
اعتمدت إسرائيل سياسة الأرض المحروقة التي تعمل على تبديل معالم المكان من خلال تدميره
يفسّر النظر إلى مسار الصراع الطويل مع إسرائيل، وإلى سلوكها الإلغائي في مواجهة الفلسطينيين، باعتبارهم النقيض التاريخي الذي بُنيت إسرائيل على أنقاض وطنهم فلسطين، العدوان التدميري الذي تمارسه إسرائيل في المناطق كلّها في قطاع غزّة، والذي يندرج في سياق رؤية إسرائيل للصراع بوصفه صراعاً إلغائياً للآخر الفلسطيني. ويصبح سلوكاً مقصوداً ومستهدفاً بذاته، وليس عنفاً اعتباطياً أو فائضاً عن الحاجة، فهو شكّل، ويُشكّل، استراتيجيةً سياسية مُعتمَدة، اعتبرتها إسرائيل فعّالة في مواجهة الفلسطينيين منذ بناء دولة إسرائيل وإلغاء فلسطين عن الخريطة السياسية في المنطقة. إذا كانت العصابات الصهيونية، لم تسعَ إلى تهديم المدن والقرى الفلسطينية في حربها ضدّ الفلسطينيين في العام 1948، وحافظت على المباني والبيوت العائدة للفلسطينيين، التي استخدمتها من قبل المؤسّسات الصهيونية لإيواء المهاجرين اليهود إلى فلسطين، إلا أنّ هذه المحافظة ترافقت مع عملية طرد وتطهير للأماكن التي احتلّتها العصابات الصهيونية من سكّانها الفلسطينيين، وهو ما جرى في المدن الفلسطينية، ومئات القرى، في 1948. اليوم، تنعكس السياسة الإسرائيلية في التعامل مع الاكتظاظ السكّاني في قطاع غزّة، لأنّ الاستراتيجية التي اعتُمِدت في ذلك العام لا تصلح مع واقع قطاع غزّة، خاصّة أنّ أهالي القطاع لا يملكون ترف الهروب إلى مكان آخر لاجئين، وهذا ما زاد من إمكانية صمودهم على أرضهم لانعدام منافذ الخروج. لذلك، يبدو أنّ الاستراتيجية الإسرائيلية غير المُعلَنة، وهي أكثر أهمّية من تلك المُعلَنة، التي تقول بالقضاء على حركة حماس واستعادة الرهائن. وهذه الأهداف المُعلَنة مُجرّد تغطية على حقيقة الهدف الإسرائيلي من هذه الحرب، أي هزيمة القطاع بالكامل، وتحويل حياة الفلسطينيين جحيماً حقيقياً، وتحويل قطاع غزّة مكاناً مُدمَّراً غير صالح للعيش البشري، بعدما كان العيش فيه صعباً بسبب الحصار الإسرائيلي المستمرّ منذ 17 عاماً. لتحقيق ذلك، اعتمدت إسرائيل سياسة الأرض المحروقة التي تعمل على تبديل معالم المكان من خلال تدميره. ومن ثم، تبديل بنيته الاجتماعية. وما دام أنّ المكان هو الذي يحمل البنية السكّانية المعادية لإسرائيل ويحتويها، فلا يمكن تحطيم هذا المجتمع المُعادي إلا بتحطيم المكان الذي يعيش فيه. من ثم، اقتلاعه وتذريره، فيصبح غريباً حتّى في وطنه، وتفكيك وحدته المجتمعية، من خلال تحطيم (وتدمير) المكان الذي يسكن فيه.
لا تحتاج السياسة التدميرية الإسرائيلية إلى خبير عسكري يقول لنا إنّ الحرب على حركة حماس لا تحتاج إلى تدمير قطاع غزّة بالكامل، كما فعلت، وتفعل، الآلة العسكرية الإسرائيلية في القطاع. لكنّ إسرائيل اختارت تدمير أماكن عيش الفلسطينيين من أجل تحطيمهم بالذات، ومن ثم، إعادة بناء المكان بمقاييس السيطرة السياسية والأمنية الإسرائيلية على القطاع، بوصفه مكاناً مُعادياً عداءً دائماً لإسرائيل. وستبقى تعامل القطاع على هذا الأساس في مُقبل الأيّام، إضافة إلى جعل القطاع المُدمَّر نموذجاً تأديبياً للآخرين الذين يحاولون المسّ بأمن إسرائيل مستقبلاً.
واضح أنّ الاستراتيجية غير المُعلَنة لإسرائيل هو جعل حياة الفلسطينيين في قطاع غزّة مستحيلةً، وهذا مدخلها الجديد إلى طردهم
تبدو الاستراتيجية الإسرائيلية جليةً جداً في تدمير القطاع، بوصفه عنواناً مُعادِياً لها، والسكّان بوصفهم أهدافاً عشوائيةً، ما دامت إسرائيل تعتبر أنّ المكان بسكّانه حاضنة لهؤلاء الأعداء، ومن ثم، يجب تحطيم المكان لتحطيم الحاضنة الاجتماعية وتجريفها، وهي الوسيلة المُثلى لانتصار إسرائيل على أعدائها (حركة حماس والفصائل الأخرى)، وعلى الحاضنة التي أعطت الجرأة لهؤلاء للتمرّد عليها (الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة). لم يقف تدمير المكان عند تدمير البنية المعمارية لتدمير النسيج الاجتماعي لهذه المناطق فحسب، بل حتّى عندما تُعلِن إسرائيل انتهاء عمليتها العسكرية في موقع من المواقع أو في قطاع من قطاعات غزّة، فإنّها تُبقيها فارغةً من سكّانها، ولا تسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم المُدمَّرة.
يشبه جوهر الاستراتيجية الإسرائيلية اليوم جوهر الاستراتيجية الصهيونية في السيطرة على فلسطين وبناء دولة إسرائيل، ففي الحالتَين اعتُمِدت سياسية التجريف السكّاني، وإن اختلفت في الأساليب، ففي المرّة الأولى استطاعت أن تطرد السكّان من دون أن تدمّر المباني التي استولت عليها. وفي المرّة الثانية، اليوم، لا تستطيع طرد السكّان، فقد أُفْشِلَ هذا الخيار مُبكّراً، فجاء الخيار البديل، وهو تدمير المكان وجعله غير صالح للعيش من أجل طرد السكّان، بتدمير البنية التحتية الهشّة في قطاع غزّة، ولاستكمال تدميرها بالكامل. هناك أكثر من 60% من مباني القطاع لم تعد صالحةً للعيش، وفي حصار جديد لمنع إعادة البناء بعد هذا التدمير الشامل، يصبح من الواضح أنّ الاستراتيجية غير المُعلَنة لإسرائيل هو جعل حياة الفلسطينيين في قطاع غزّة مستحيلةً، وهذا مدخلها الجديد إلى طردهم.